تُمثِّل الصناعة عمود أي اقتصاد يسعى للاستدامة، وركيزة أساسية في احتواء الموارد البشرية والمادية، لذلك يجب الاعتراف بأن بناء اقتصاد قوي قادر على تحقيق التحوُّل يجب أن ينتقل من الأبراج إلى المصانع، ذلك أن ما يظهر من التركيز على قِطاع العقارات والمنشآت باعتباره الاستثمار الآمن والأقل مخاطرة، وهو الأقل أيضا في الفوائد الدورية المترتبة عليه، نظرا لكونه لا يخدم التشغيل الوطني إلا بعدد محدود جدا، وانطلاقا من القاعدة الاقتصادية بأنه كلما زادت نسبة المخاطرة في المشاريع زاد توقع الأرباح. إذ قد يتم إنفاق مليون ريال عُماني لمبنى أو منشأة تجارية أو سكنية لا تحتاج إلا لموظف واحد أو اثنين على الأكثر، في حين أن صرف هذا المبلغ في مجال التصنيع والصناعات التحويلية كفيل بتشغيل عشرات المواطنين من ذوي المهارة في حالة اعتماد المصنع على التقنية الحديثة، ويحتاج لأضعاف ذلك في حالة استخدامه للتقنية بشكل أقل، وبالتالي توجيه الاستثمارات والمستثمرين في القِطاعات الصناعية التي تزيد فيها نسبة المخاطرة، وعبر تبنِّي سياسات أكثر تحفيزية للمستثمرين في القِطاع الصناعي الذي يفترض أن تكون له أولوية على قِطاعات التطوير العقاري، وضمان اتجاه المستثمرين المحليين والأجانب نحو الاستثمار في الصناعات التحويلية، وعندها يصبح الاستثمار في القِطاع الصناعي من أقوى الاستثمارات استدامة في ظل سعيه نحو استغلال المواد الخام وإعادة إنتاجها وتدويرها، ناهيك عن ارتباطه بالتوجُّهات الاقتصادية الواعدة، ذلك أن الرأسمال البشري الاجتماعي سيكون حاضرا في هذا النوع من الاستثمار، وله موقعه في المصانع التي تعمل على توظيف مهارات المورد البشري والإعلاء من قيمتها وتعزيز حضورها في معامل الإنتاج، الأمر الذي يعزز من فرص الاعتماد على النفس وتشغيل الباحثين عن عمل وأصحاب المهارات، والتوسع في خيارات الأنشطة الصناعية التحويلية الأخرى.
على أن طرحنا للموضوع يأتي في ظل جملة من المحطات الاقتصادية التي اتجهت لها سلطنة عُمان في الخطة الخمسية العاشرة، ويمكن أن تقرب الصورة وتؤسس لمرحلة متقدمة في بناء مجتمع عُمان الصناعي، في ظل جهود وطنية للعمل على تعزيز كفاءة الإيرادات غير النفطية ورفع سقف حضورها في الإنتاج المحلي والعمل على تبنِّي سياسات وطنية أكثر احترافية وذكاء في توظيف فرص ارتفاع أسعار النفط والغاز في سداد الدَّين العام والالتزامات الاقتصادية وسداد العجز، وفي الوقت نفسه إيجاد مزيدٍ من الفرص للشباب العُماني عبر الاستثمار في الصناعات التحويلية، المحرك الأساسي للتنمية في الكثير من دول العالم والمنطقة، إذ تُشكِّل قِيمة مضافة تسهم في تسريع وتيرة التنويع الاقتصادي، وإعادة هيكلة الموارد وحُسن توجيهها، وفي التقليل من اعتماد الاقتصاد الوطني على النفط، وتكريس الاهتمام بالمدن والمناطق الصناعية الحرة الكبرى في ظل الإعلان الأخير عن اكتمال الجاهزية التشغيلية لميناء الدقم بكل مرافقه، والفرص الاقتصادية والصناعات التحويلية التي تقدمها المناطق الحرة والموانئ اللوجستية وغيرها، الأمر الذي سيوفر فرص نجاح كبرى في الاهتمام بالصناعات الخفيفة والتحويلية وإعادة إنتاجها، أما النقطة الأبرز التي تجسد هذا التوجُّه وتعكس هذه الصورة وتُمثِّل نواة جديدة في الصناعة الأساسية والتي يمكن أن تنتج عنها صناعات تحويلية أخرى يكمن في افتتاح مصنع كروة للسيارات بالمنطقة الاقتصادية الخاصة بالدقم الذي يُعد نقلة نوعية في الاتجاه الصحيح نحو توطين الصناعة العُمانية، وتعزيز القِيَمة المضافة للقِطاع الصناعي في سلطنة عُمان عبر تطوير مجموعة الصناعات المرتبطة بقِطاع النقل والخدمات المصاحبة له، وما يمكن أن يحققه ذلك من فرص جلب التقنيات الحديثة التي تساعد على تأسيس المشروعات الصغيرة والمتوسطة بالمنطقة، وتوطين صناعة مختلف الحافلات، ومن جهة أخرى تتجه سلطنة عُمان لتحويل ميناء الدقم إلى مركز عالمي لتجارة الهيدروجين الأخضر وتوزيعه، ولعلَّ من بين المشاريع التي يمكن أن تشكِّل تحوُّلا استراتيجيا في هذا المجال اتفاقية حجز الأرض لمشروع إنتاج الهيدروجين الأخضر، حيث من المقرر أن يبدأ تشغيله في عام 2026 بشكلٍ يضمن تلبية الطلب العالمي على الهيدروجين الأخضر ومشتقاته، وفي الوقت ذاته يُمثِّل مجمع لوى للصناعات البلاستيكية من أكبر المشروعات في مجال البلاستيك ومشتقاته بالسلطنة، وهو ما سيجعلها محطة استراتيجية في الصناعات البتروكيماوية على مستوى العالم.
وتبقى مسألة ارتفاع النفط والغاز فرصة لالتقاط الأنفاس وإعادة تقييم المسار وتسريع العمل في تمكين القِطاع الصناعي من الوقوف على أرضية صلبة، مستفيدا من الجاهزية الوطنية المتحققة، ممثلة في البنية الأساسية الصلبة التي باتت تُمثِّلها المناطق الاقتصادية الحرة في صحار وصلالة والدقم وافتتاح الموانئ البحرية الاستراتيجية التي يُشكِّل ميناء الدقم فيها حضور القوة، والجهود الساعية لتطوير البنى الأساسية في المناطق الصناعية بمختلف ولايات سلطنة عُمان، بالإضافة إلى البنية التشريعية والقوانين التي باتت تُمثِّل فرصة في تحقيق تحوُّل في هذا المجال مثل قانون الاستثمار الأجنبي وقانون الشراكة مع القِطاع الخاص، وبمعنى آخر أن لا يُشكِّل ارتفاع النفط مساحة للتراخي والتراجع لدى الحكومة نحو تحقيق هدف التنويع الاقتصادي وتعزيز الاستدامة، بما يؤكد على ضرورة الاستفادة اليوم من ارتفاع الأسعار النفط والغاز وتوجيه ذلك نحو تعزيز القِيَمة المضافة للصناعة، حيث أظهرت مؤشرات وزارة المالية عن الأداء المالي لسلطنة عُمان لعام 2021 والنصف الأول من عام 2022، أن الإيرادات النفطية شكَّلت ما نسبته 50% من إيرادات عام 2021، وشكَّلت إيرادات الغاز 23.5% هذا الارتفاع الذي يعزى لزيادة ارتفاع أسعارها وزيادة كمية إنتاج السلطنة من النفط والغاز، وما فرضته الأزمة الروسية الأوكرانية، الأمر الذي يؤكد على الحاجة إلى تبنِّي سياسات أكثر ذكاء في رفع نسبة مساهمة الإيرادات غير النفطية في سبيل إيجاد مساحة أكبر من التوازن نظرا للمخاطر الناتجة من الاعتماد على النفط والذي لا يمكن التكهن باستمرارية أو التعويل على استمراره في الارتفاع، الطريق الأمن للخروج من جلباب النفط وإيجاد فرص نجاح أكبر لتوطين الصناعات التحويلية.
وعودا على بدء، فإن الحديث عن تعزيز دور الصناعة في صناعة المستقبل، ليس فقط في كونها الركيزة الأساسية لاقتصاد مستدام ومتنوع ويتكيف مع احتياجات الإنسان وأولوياته، ويعزز من فرص التنويع في الاقتصاد الوطني فقط، بل لما يقدمه من أمن اقتصادي يظهر في وجود مجتمع صناعي يعتمد على نفسه ويستفيد من موارده ويشجع على ريادة الأعمال وإدارة المشاريع الصناعية، ويعزز من دور المؤسسات الصغيرة والمتوسطة بالاستثمار في الصناعات التحويلية، وبالتالي يستدعي الأمر بالإضافة إلى ما تم تحقيقه من إنجازات على صعيد البنية الأساسية الصلبة والبنية الأساسية الناعمة، البحث عن الجزء المفقود في المعادلة والذي يُمثِّل تحدِّيا في سبيل تحقيق معادلة القوة في الصناعة التحويلية، والذي يتمثَّل في المورد البشري، وأعني هنا إلى أي مدى يتلقى المورد البشري على مختلف المستويات التعليمية والتدريبية جرعات كافية تؤهله لإثبات حضوره في اقتصاد الصناعة، وهنا يتجه الأمر إلى دور المهارات في رسم صورة اقتصاد الصناعة الوطنية، إذ إن تعزيز المهارات الأساسية الناعمة من أهم متطلبات سوق العمل، وعليه يجب أن يواكب هذا الجهد المبذول في تهيئة المدن والمناطق الصناعية، وتعزيز الصناعة التحويلية مع جهد بناء المواطن مهاريا، إذ إن تعزيز الصناعة التحويلية بحاجة إلى توطينها من خلال إعادة تدوير المواد الخام داخليا والتقليل من توريد، بالإضافة إلى تعزيز دورها في تشغيل المواطنين واستيعاب أكبر قدر ممكن من مخرجات التعليم من القوى العاملة الوطنية الماهرة وشبه الماهرة والتي تُشكِّل ما نسبته 70% من حاجة المصانع إليها، وبالتالي يتقاسم هذا التوجُّه مع توجيهات جلالة السلطان بتنويع مسارات التعليم وباستكمال إعداد مسار التعليم التقني ضمن مخرجات التعليم العام ومواءمة مخرجات التعليم العام (المسار التقني) مع برامج التعليم والتدريب المهني، فإن الجهود تقتضي أن تتكامل الجوانب الأكاديمية والمهنية والفنية والتقنية بحيث يقدم التعليم المدرسي خبرات فنية تعد الطالب للالتحاق بسوق العمل لتلبية حاجات المجتمع من القوى الوطنية الماهرة وشبه الماهرة التي تُشكِّل النسبة الأكبر في القوى العاملة على المستوى الدولي والمستوى الوطني.
أخيرا، كيف يمكن العمل على الاستفادة من فرص ارتفاع أسعار النفط في إنجاز هدف رفع مساهمة قِطاع الصناعات التحويلية خلال الخطة الخمسية العاشرة من (10.8%) لتصل مساهمتها المتوقعة بنهاية الخطة (12.2%) وبمعدل نمو سنوي خلال فترة الخطة مقداره (6.0%)، خصوصا في ظل ما أبرزته مسألة ارتفاع أسعار النفط والغاز من تفوق الإيرادات النفطية وتراجع في الإيرادات غير النفطية، الأمر الذي قد يُشكِّل منعطفا خطيرا إن صاحبته حالة من التراخي والبطء في جدية تحقق هذا الهدف المرتبط برفع مساهمة الصناعات التحويلية، عبر التوسع في الصناعات التحويلية وزيادة الخيارات والأنشطة التي تعمل فيها المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، بحيث تُشكِّل مشاريع الصناعات التحويلية التي تم إنشاؤها في الدقم وصلالة وصحار خلال المرحلة الأولى من الخطة الخمسية العاشرة بداية جادة ومستمرة لانطلاقة مشاريع أخرى استراتيجية في قادم الوقت، الأمر الذي يستدعي تعزيز حضور الصناعات التحويلية بسلطنة عُمان في رسم خريطة الإنتاج، فهي مطالبة اليوم بتحقيق مستويات عليا من التوازن في الأنشطة الاقتصادية الصناعية والتجارية نوعًا وكمًّا، ومطلوب منها أن تستوعب حجم الاحتياج المجتمعي من الصناعات التحويلية وأنشطة التصدير الأخرى، بحيث تعمل على تحقيق الاكتفاء الذاتي للمحيط الجغرافي الذي تعمل فيه كحدٍّ أدنى، وما يرتبط بذلك من تقديم الحوافز والممكنات والامتيازات وتقديم التسهيلات أمام المستثمرين لإنهاض القِطاع الصناعي، وبالتالي تبنِّي إجراءات لتقليل مسار المخاطرة المرتبطة بهذا القِطاع بفتح صناديق استثمارية تحافظ على مستوى الثقة والاطمئنان وجسور التواصل ممتدة بين المستثمرين والحكومة، بالإضافة إلى تعزيز الشراكة مع القِطاع الخاص المحلي في إدارة واستثمار وتنفيذ عدد من المشاريع الصناعية في مختلف محافظات السلطنة؛ لضمان تحقق هدف التنوع الاقتصادي وتنشيط حركة الصناعة في المناطق الصناعية بالولايات وعبر إدارة استثمارية ذكية، تستوعب الشباب العُماني للانخراط فيها.


د.رجب بن علي العويسي
[email protected]