يقيس السكان العرب في إسرائيل أهمية وجدوى المشاركة السياسية بما تؤدي إليه من تغيير في أوضاعهم المعيشية، وتحسين تعامل السلطة بإداراتها المختلفة معهم وتحقيق بعض مطالبهم الخدمية.

مع اقتراب الانتخابات العامة في إسرائيل في شهر نوفمبر القادم، تحفل وسائل الإعلام بالتحليلات والتعليقات. ولعلَّ الملمح المهم أنها للمرة الأولى تعطي مساحة معقولة لمناقشة توجهات التصويت بين الفلسطينيين داخل إسرائيل، والذين يشكلون خمس سكانها تقريبا. صحيح أنه منذ تشكلت أحزاب عربية في إسرائيل قبل سنوات طويلة، تجد إشارات لتلك الأحزاب واحتمالات فوزها بمقعد أو أكثر في الانتخابات. لكن العزوف التقليدي عن مشاركة أي حزب عربي في أي ائتلاف حكومي لم يجعل المعلقين والمحللين يلقون أهمية كبيرة لها. استمر ذلك حتى كسر منصور عباس، زعيم “القائمة العربية الموحدة” والقادم من الحركة الإسلامية التي تحمل توجُّه الإخوان المسلمين، ذلك المحظور العام الماضي وشارك في الائتلاف الحكومي اليميني المكوَّن من ثمانية أحزاب كي لا يتمكن رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو من العودة لرئاسة الوزراء. ولولا المقاعد الأربعة للقائمة، ما تمكن ائتلاف نفتالي بينيت ويائير لابيد من تحقيق أغلبية بمقعد واحد تساعدهم على تشكيل الحكومة التي لم تستمر سوى عام في الحكم.
وبعيدا عن التحليلات الإسرائيلية لمستقبل الصوت العربي في الانتخابات القادمة، يثور جدل كبير بين الفلسطينيين في إسرائيل حول جدوى الخطوة التي اتخذها منصور عباس بالمشاركة في حكومة إسرائيلية. وإذا كان البعض قبل تبريره في السابق بأن المشاركة في الحكومة ستعني تغيير أوضاع العرب في إسرائيل للأفضل فإن التجربة لم تؤدِّ إلى أي تحسن لأوضاع الفلسطينيين في إسرائيل، بل على العكس يشعر الناخب العربي بأن أوضاعه تزداد سوءا باطراد كما هو الحال منذ بدء الاحتلال. بل إن هناك من يرى أن منصور عباس اتبع بفجاجة “نهج الإخوان الانتهازي” الذي يستهدف الوصول إلى السلطة؛ أي سلكة وبأي وسيلة، وكأن ذلك هدف نهائي في حد ذاته. وتنقل صحيفة الفاينانشيال تايمز البريطانية تعليقا لأحد هؤلاء الفلسطينيين في إسرائيل على منصور عباس ومشاركته في الحكومة المنهارة يقول: “كان لدينا صهاينة يهود، وصهاينة مسيحيون، والآن أصبح لدينا صهاينة إسلاميون”.
يقيس السكان العرب في إسرائيل أهمية وجدوى المشاركة السياسية بما تؤدي إليه من تغيير في أوضاعهم المعيشية، وتحسين تعامل السلطة بإداراتها المختلفة معهم وتحقيق بعض مطالبهم الخدمية. لذا، كان عرب إسرائيل يصوتون لأحزابهم حتى لو لم تفز كل تلك الأحزاب إلا بمقعد واحد في الكنيست (البرلمان). فلعل ذلك النائب يسهل حصول هذه المدينة أو تلك البلدة على نزر يسير من حقوقها مقابل الضرائب التي يدفعها المواطنون. طبعا ليس هناك طموح للحصول على ذات الاهتمام والخدمات التي تحصل عليها مستوطنات ليهود متطرفين، أو حتى أحياء أغلبية سكانها من اليهود، خصوصا من ذوي الأصول الأوروبية أو الغربية عموما. ورغم التغني في الإعلام الغربي، وبعض العربي، بالديموقراطية الإسرائيلية وما شابه فإن الحقيقة التي يعيشها العرب في إسرائيل (وبعض اليهود حتى من مناطق معينة مثل الفلاشا الإثيوبيين وغيرهم) هي التمييز الواضح ضدهم من قبل الحكومة بكل أجهزتها حتى أصغر إدارة في أصغر حي.
في السنوات الأخيرة ارتفعت نسبة مشاركة العرب الفلسطينيين من مواطني إسرائيل في الانتخابات العامة مع تفتت الساحة السياسية في إسرائيل. وفي انتخابات عام 2020 بلغت نسبة المشاركة في التصويت أكثر من 65 في المئة بين العرب الفلسطينيين. فلم يعد المشهد السياسي يقوده حزب الليكود اليميني وحزب العمل اليساري قليلا. بل أصبحت الأحزاب الدينية المتطرفة واليمين المتشدد بشكل عام وغيرها من الأحزاب الصغيرة البعيدة عن الوسط السياسي حاسمة في تشكيل الحكومات مع زيادة تفتت التمثيل في البرلمان. وبالتالي أصبح كل مقعد في الكنيست له أهمية، وتصور كثير من العرب الفلسطينيين أن انتخابهم أكثر من نائب يُمثِّلهم سيحسن أوضاعهم، ويجعل الحكومة تقلل من معاملتهم كمواطنين درجة ثانية أو ثالثة. لكن ذلك لم يحدث، بل على العكس زاد التمييز بالتوازي مع زيادة مكاسب اليهود المتطرفين. وكانت قمة خيبة الأمل والإحباط السياسي هي في مشاركة منصور عباس وكتلته البرلمانية في ائتلاف الحكومة. وبدا واضحا لكثير من الناخبين العرب، خصوصا من الأجيال الشابة، أن لا جدوى من تلك المشاركة السياسية التي وصلت قمتها بدخول الزعيم الإخواني في ائتلاف مع اليمين اليهودي لتشكيل حكومة.
ما يهم المعلقين والمحللين الإسرائيليين هو مدى تأثير ذلك الإحباط لدى الناخب العربي على نسبة مشاركة فلسطينيي إسرائيل في التصويت في الانتخابات بعد نحو شهرين. ويتوقع أن تنخفض نسبة المشاركة في التصويت بين عرب إسرائيل إلى ما دون أربعين في المئة بعد خيبة الأمل في منصور عباس وقائمته، خصوصا وأن مزيدا من الفلسطينيين في المدن ذات الكثافة العربية مثل مدينة الناصرة أصبحوا يتحدثون علنا عن أن ما حدث كان “مجرد انتهازية إخوانية” للاقتراب من السلطة وليس من أجل تحقيق أي مكاسب عادلة للمواطنين العرب. وبغضِّ النظر عن أن عزوف العرب عن التصويت قد يساعد نتنياهو وحلفاءه على العودة للحكم، فإن المخاوف الأهم هي من أن انسداد أفق المشاركة السياسية لفلسطيني إسرائيل قد يدفع البعض ـ خصوصا من الشباب ـ نحو رد فعل مختلف على التمييز والظلم البين من قبل السلطات.




د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري
[email protected]