أيها القراء الكرام.. إن الله تعالى أودع بني آدم صفات جمة من الحسن ودونه، فأما عن الحسن من الصفات فيتمسك بها الحر من الناس من هو أصيل معدنه والخير مسكنه نفيس جوهره خلوق منظره شريف نسبه عظيم حسبه طاهر قلبه زكية نفسه متكاملة طباعه.
ومن عظيم تلك الصفات (المروءة)، فعلى قدر شرف النَّفس وَتَكون الْمُرُوءَة، وقد كان يتصف بها العربي الأصيل قديمًا، فقد اشتهرا العرب بالمروءة والشجاعة والشهامة، قيل:(كَانَ قس بن سَاعِدَة يفد على قَيْصر ويزوره، وذات يوم وفد عليه فسألَهُ قَيْصر: مَا أفضل الْعقل؟ فقَالَ قس: معرفَة الْمَرْء بنفسه. فقَالَ قيصر: فَمَا أفضل الْعلم؟ فقَالَ ابن ساعدة: وقُوف الْمَرْء عِنْد علمه. فقَالَ قيصر: فَمَا أفضل الْمُرُوءَة؟ قفَالَ ابن ساعدة: اسْتِيفَاء الرجل مَاء وجهه. فقَالَ قيصر: فَمَا أفضل المَال؟ فقَالَ بن ساعدة: مَا قضي بِهِ الْحُقُوق).
فهكذا كانت طبائع العرب، ولما جاء الإسلام أقرهم على تلك الصفات الطيبة، لأنها من الفطرة السليمة التي جبلت الإنسانية عليها، (رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ الله عَنهُ ـ رأى رجلًا يَقُول أنا ابْن بطحاء مكة. فَوقف عليه فَقَالَ له: إن كَانَ لَك دين فلك شرف. وإن كَانَ لَك عقل فَلَكَ مُرُوءَةٌ. وَإِنْ كَانَ لَكَ علم فلك شرف. وإلا فأنت وَالْحمار سواء، ويروى عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ انه كَانَ يَقُول انا معشر قُرَيْش كُنَّا نعد الْجُود والحلم السؤدد ونعد العفاف واصلاح المَال الْمُرُوءَة) كتاب (المروءة لابن المرزبان، ص: 124).
وظلت هذه الصفات متوارثة في الأجيال جيلًا بعد جيل، يربي عليها الرجل ولده، وتدعم بها الأم تربية أولادها، فهـي صفة كريمة ينبغي أن يتحلى بها الجميع، وهي مأمور بها في كتاب الله تعالى فقد (قيل لِسُفْيَان بن عيينه: قد استنبطت من القرآن كل شَيْء، فأين الْمُرُوءَة فِيهِ؟ فَقَالَ: فِي قوله:(خُذِ العَفوَ وأَمُر بِالعُرفِ وَأَعرِض عَنِ الجَاهِلِين) (الأعراف ـ ١٩٩)، (فَفِيهِ الْمُرُوءَة وَحسن الأدب، وَمَكَارِم الأخلاق، فَجمع فِي قوله:( خُذِ العَفوَ) صلَة القاطعين والْعَفو عَن المذنبين والرِّفْق بِالْمُؤْمِنِينَ وَغير ذَلِك من أخلاق المطيعين، وَدخل فِي قوله:(وأَمُر بِالعُرفِ) صلَة الأرحام وتقوى الله فِي الْحَلَال والْحَرَام، وغض الأبصار، والاستعداد لدار الْقَرار، وَدخل فِي قوله:(وَأَعرِض عَنِ الجَاهِلِين) الحض على التخلق بالحلم والإعراض عَن أهل الظُّلم، والتنزه عَن مُنَازعَة السُّفَهَاء، ومساواة الجهلة والأغبياء. وَغير ذَلِك من الأخلاق الحميدة والأفعال الرشيدة. ومما دعاني أن أكتب ما قد يلاحظه معي القراء الكرام أن الشباب الصاعد والناشئة الجدد قد تقل بينهم هذه الصفة إلا من رحم الله، ولهذا أرد أن أدعهما لتنشط من ثباتها، وترتوي شجرتها وترعرع سيقانها وتزهر ورودها وتكثر ثمارها في مجتمعاتنا، فما أحوج شبابنا اليوم إلى صفة المروءة، فما هي المروءة؟ والإجابة عن هذا السؤال قد اختلف فيه أهل العلم كل بمشربه ومسقاه، فقد قَالَ بَعضهم: الْمُرُوءَة صدق اللِّسَان، وَاحْتِمَال عثرات الإخوان، وبذل الْمَعْرُوف لأهل الزَّمَان، وكف الأذى عَن الْجِيرَان، وقَالَ الفضيل: الْمُرُوءَة الِاسْتِغْنَاء عَن النَّاس. وَقَالَ بَعضهم: الْمُرُوءَة ثَلَاثَة اشياء: الْخلق، الصدْق، والرفق. وكَانَ فتا من طيء يجلس إلى الأحنف، وَكَانَ يعجبه جمال منظره وحسن جواره ولين جانبه، فَقَالَ لَه يَوْمًا: يَا فتى، هَل تزين جمالك هذا بشيء؟ فقَالَ الفتى: نعم، فقال الأحنف: وبما تزينه؟ فقال الفتى: إذا حَدثت صدقت، وإذا حُدثت استمعت، وإذا عَاهَدت وفيت، وإذا وعدت أنجزت، وإذا اؤتمنت لم أخن. فَقَالَ الأحنف: هذه الْمُرُوءَة حَقًّا!، قَالَ بعض الْحُكَمَاء: من تَمام مُرُوءَة الرجل كتمانه السِّرّ، ورفعه الحرج، وَقبُول الْجَمِيل عَليّ ظَاهِرَه، ومن الْمُرُوءَة اجتنابك مَا يشينك، واختبارك مَا يزينك. وسُئِلَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن الْمُرُوءَة فَقَالَ: الإنصاف من نَفسك، والتفضل عَلى غَيْرك. ألم تسمع قَول الله تعالى:(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل ـ ٩٠)، فلَا تتمّ الْمُرُوءَة إلا بهما: الْعدْل هُوَ الإنصاف، والإحسان هو التفضل. وقيل: (الْمُرُوءَة: الرَّغْبَة الصادقة للنَّفس فِي الافادة بدر مَا يُمكن، وقَالَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ الله عَنهُ الادب حلى فِي الْغنى كنز عِنْد الْحَاجة عون على الْمُرُوءَة صَاحب فِي الْمجْلس مؤنس فِي الْوحدَة، وقَالَ ربيعَة بن عبد الرَّحْمَن: للْمُرُوءَة خِصَال: منها مُرُوءَة للسَّفر، ومنها مُرُوءَة للحضر، فأما المروءة فِي السّفر: فبذل الزَّاد، وَحسن الْخلق، والرفق بالرفيق، وأما المروءة التي في الحضر: فتلاوة الْقرَان وَلُزُوم الْمَسَاجِد، وعفاف الْفرج. وَكَثْرَة الاخوان فِي الله عز وَجل) (المرجع السابق، ص: 108).
ويجب على الآباء والأمهات أن يدربوا عليها أولادهم وخاصة إذا جاءوهم وقصوا عليهم مواقف لهم مع أصدقائهم أو زملائهم أو الناس في الشارع أو المتجر. فينبغي عليهم أن يزرعوا فيهم المروءة والشجاعة السخاء، (قَالَ ابْن حبَان: قد نبغت نَابِغَة اتكلوا عَليّ آبائهم، واتكلوا عَليّ أجدادهم، فِي الذّكر والمروءات، وبعدوا عَن الْقيام بإقامتها بأنفسهم. وقد يكون لهم العذر في ذلك من ناحية أنهم لم يؤمروا بالمروءة ولم يتعلموها من أهلهم فإنى لهم أن يأتوا بها! وصدق القَائِل: الْمُرُوءَة ثَلَاثَة إكرام الرجل إخوان أبيه، وإصلاحه ماله، وقعوده على داره. وكيف يأتي منه ذلك إذا لم يأخذه من مربيه ومعلميه. وَمن تعليم المروءة للأبناء: تعريفهم أن الْمُرُوءَة اتيان الْحق وتعاهد الضَّيْف. وتدريبهم أن من الْمُرُوءَة التقوى وإصلاح الضَّيْعَة والغداء والْعشَاء فِي الأفنية ليأتيهم من يطعمونه، وتعليمهم أيضا أن من الْمُرُوءَة انصاف الرجل من هُوَ دونه، والسمو والرفعة إلى من هُوَ فوقه. وقَالَ حَكِيم: عشرَة تورث ـ من الآباء للأبناء ـ: التَّوَاضُع يُورث الرّفْعَة، والندامة تورث التَّوْبَة، ورؤية الْمِنَّة تورث الشُّكْر، والإياس من النَّاس يُورث التَّوَكُّل، وَالْعُزْلَة من الْخلق تورث الأنس بِالْحَقِّ، وكظم الغيظ يُورث زِيَادَة الْعقل، وَصدق النِّيَّة يُورث الْجهد فِي الْعَمَل، وَزِيَادَة الْعَمَل تورث زِيَادَة الخشية، وَمُخَالفَة النَّفس تورث موافقة الرب عز وَجل، وَاسْتِعْمَال الْمُرُوءَة فِي دين الله يُورث مقَام الْقرب من الله تعالى) (المرجع السابق ، ص: 112).
وليحذر الآباء من ترك أولادهم مع أصحابهم بغير مراقبة أو متابعة فإن أصدقاء السوء يقتلون في نفوس من يصادقونه المروءة والأخلاق الحسنة في مهدها (رُوِيَ أن الله تعالي أوحى إلي نبيه دَاوُد ـ عليه السَّلَام: يَا داؤود، لَا تصْحَب إلا امرا تكاملت فيه الْمُرُوءَة وَالدّين. قَالَ أبو قلابة: لَيْسَ من الْمُرُوءَة أن يرِيح الرجل على صديقَه. وَرُوِيَ ابْن عَائِشَة عَن ابيه قوله: كَانَ يُقَال مجالسة أهل الديانة تجلو من الغلب صدأ الذنوب. ومجالسة ذَوي المروءات تدل على مَكَارِم الأخلاق. ومجالسة الْعلمَاء تذكي الْقُلُوب. وقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ: آفة الْمُرُوءَة إخوان السوء. وقَالَ ابْن حبَان: الْوَاجِب على الْعَاقِل تفقد الأسباب المستحقرة عِنْد الْعَوام من نفسه حَتَّى لا يتلم مروءته، فإن المحقرات ضد المروءات، تؤذي الْكَامِل فِي أخلاقه بِالرُّجُوعِ الْقَهْقَرَي إلى مَرَاتِب الْعَوام وأوباش النَّاس. قَالَ طَلْحَة بن عبيد الله بن القناش: كنت يَوْمًا فِي مجْلِس حَدِيث بِحَضْرَة سيف الدولة، كنت أنا وَجَمَاعَة من ندمائه، فَأدْخُلْ إليه رجل وخاطبه فأغلظ عليه. فأمْر سيف الدولة بقتله لتطاوله، فَقتل فِي الْحَال. فَالْتَفت إلينا وَقَالَ: مَا هَذَا الأدب السيئ وَمَا هذه المعاشرة القبيحة الَّتِي نعاشر ونجالس بهَا، كأنكم مَا رَأَيْتُمْ النَّاس وَلَا سمعتم أخبار الْمُلُوك، وَلَا عشتم فِي الدُّنْيَا، وَلَا تأدبتم بأدب دين وَلَا مُرُوءَة، وَقَالَ كذا وكذا. فتوهمنا أنه قد شَاهد من بَعْضنَا حَالا يُوجب هَذَا، فَقُلْنَا له: كل الأدب إنما يُسْتَفَاد من مَوْلَانَا أطال الله بقاءه وَمَا علمنَا أنا عَملنَا مَا يُوجب هَذَا فإن رأي أن ينعم بتنبيهنا فعل؟ فَقَالَ في غضب: أما رأيتموني وَقد أمرت بقتل رجل مُسلم لَا يجب عليه الْقَتْل، وإنما حَملتنِي السطوة والسياسة لهذه النكدة على أمْر بِهِ طَمَعا فِي أن يكون فِيكُم رجل رشيد فيسألني الْعَفو عَنهُ فأعفو عنه وَتقوم الهيبة عنده وَعند غيره، فأمسكتم وسكتم حتى أريق دم الرجل وَذهب هدرا. قَالَ: فأخذنا نعتذر إليه وَقُلْنَا لم نتجاسر على ذلك. فقال: وَلَا فِي دِمَاء؟ لَيْسَ هَذَا عذرا! فقُلْنَا لَا نعاود واعتذرنا حَتَّى أمسك) (المرجع السابق 122).
ولهذا ينبغي علينا نحن الآباء أن نربي أولادنا على المروءة وإحقاق الحق بينهم وبين بعضهم وبينهم وبين الناس، فالأخلاق أمانة في أعناقنا ينبغي أن نودعها أولادنا حق إيداعها، والله الهادي إلى سواء السبيل.

محمود عدلي الشريف
[email protected]