.. فهذا السياقُ سياقٌ سلامٍ بين الملائكة، وسيدنا إبراهيم الخليل (عليه السلام) الذي علَّمه الله، وآتاه الله الحكمة، وفصل الخطاب، واتخذه خليلا، وامتدحَه كثيرًا في كتابه العزيز، ووصفه بأنه منيب، وأوَّاه، وحليم، وأنه أمَّة وحده، وأنه القانتُ لله، وأنه على الحنيفية السمحاء، وجعل الله له لسانَ صدقٍ في الآخرين، فما من أمة، ولا ملة إلا وتوقِّره، وتذكُره بكل خير، وتصفه بكل حكمة، كما طلب من ربه في عائه، وأمسى ممجَّدًا في كل الشرائع، والملل، والنحل، وعند كل البشر، والموقف هنا يبيِّن لنا الفرق بين سلام الملائكة، وسلام سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام، وجاء التركيبُ القرآنيُّ موضِّحًا الفروقَ الكثيرة بين السلامَيْنِ، ومن تلك الفروق: أولًا سلام الملائكة جاء بالجملة الفعلية:(قالوا سلامًا) أي: نُسلِّم سلامًا، فـ(سلامًا) بالنصب إما على أنها مفعول مطلق، وإما على أنها نائب عن المفعول المطلق، والأخيرُ أولَى؛ لأن الفعل الذي بوزن فعَّل( بتضعيف العين مثل سلَّم) يكون مصدره التفعيل، أي: هنا في الآية التسليم لا السلام، وجاء لفظ (السلام) تخفيفًا، تماشيًا مع هدوئه، وتُؤَدَتِهِ، فـ(سلامٌ) أيسر نطقًا وإسراعًا من (التسليم)، فيكون نائبًا عن المفعول المطلق، والشاهد أنه ورد سلامُهم بالجملة الفعلية، والجملة الفعلية تفيد التغير، والحدوث، ولا تفيد الثبات والدوام، فسلامهم مرهونٌ بأمر ربِّهم لهم، وهم (يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرْونَ)، وليس لهم إرادة، ولا اختيار فيما يفعلون، فهم ملائكة مسخَّرون، وكلٌّ له عملٌ محدَّد، يعمله مدى الحياة:(يسبحون الليل والنهار لا يفترون)، فإذا أمرهم الله بأن يكونوا سلامًا كانوا سلامًا، وإذا أمرهم أن يجعلوا أعاليَ قرية مَّا أسافلها سارعوا بتنفيذ أمرِ ربِّهم دون أدنى كلمة، فأمرُهم ليس بأيديهم، ويلتزمون بما به يُؤْمَرُونَ، فالجملة فعلية تفيد التغير، والحدوث، واستمرار هذا التغير، وذاك الحدوث، أما جملة سيدنا إبراهيم (عليه السلام) رَدًّا عليهم فكانت جملة اسمية، والجمل الاسمية تفيد الثبات، والدوام، والاستمرار، أي شأنه في أيِّ وقت السلام: مساءً، وصباحًا، غُدُوًّا ورَوَاحًا، صيفًا، وشتاءً، سفرًا، وإقامةً، حزنًا، وفرحًا، منشطًا، ومكرهًا، حربًا، وسلمًا، فأمرُه على الدوام السلامُ، وقد وضَح ذلك تمامًا في كل مواقفه في القرآن الكريم أن أمره كله سلام، سواء مع أبيه، أو مع قومه، أو مع مناقشه المتكبر الظالم الذي حاج إبراهيم في ربه (كما في سورة البقرة، الآيات 257 ـ 258)، أو في نظرته للملك والملكوت، ورؤية الكوكب، والقمر، والشمس، واستنتاج قضية أن الكون لله الواحد الأحد، هو الذي يسيره كيف يشاء، وهو الذي فطر السموات والأرض، وهو الذي يهيمن على كونه، أو في مناقشته لملائكة الله عندما نزلوا لتدمير قوم لوط، أو مناقشته لقومه، فحياتُه كلُّها سلامٌ في سلامٍ، وهو بشرٌ، حُرٌّ، يملك عقله، وتصرفه، لا كما الملائكة الذين (لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون)، ففي هذا الجانب فاق الملائكة، فسلامُهم متغير، وسلامه ثابت، وسلامُهم جملة فعلية، حُذِفَ فعلُها، وفاعلها، وسلامُهُ جملة اسمية، حُذِفَ مبتدؤها، وسلامهم متغير، متأرجح، يأتي وفق الأمر الإلهي لهم، وسلامُهُ ثابت، دائم، مستقرٌّن أزليٌّ، سرمديٌّ، فمحلُّ اللفظ:(سلام) إما أنه مبتدأ، خبره شبه جملة محذوف تقديره:(أي عليكم سلام)، وإما أنه خبرٌ لمبتدأ محذوف وجوبًا؛ لسد الخبر المصدر مسدَّه، أي: سلامي سلامٌ، أو أمْري سلامٌ، أو رَدِّي لكم سلامٌ، وكونه خبرًا لمبتدأ محذوف، أو مبتدأ لخبر محذوف يَشيِ بثبات سلامِه، واستمرار السلام، وشموله كلَّ حياته، وأوضاعه، واستصحاب ذلك معه كَظِلِّهِ، يمشي معه أينما مضى، ويصاحبُه حيثما حَلَّ، وهو على العكس من سلام الملائكة الذين سلامهم ـ كما سلف ـ مرهونٌ بأمْر ربهم: يكونون سلامًا، ورحمة في وقتٍ ما، وحربًا، ونقمةً، ودمارًا في وقت آخر، وهذا الأمر غير ثابت لهم، وهم رَهِينُ أمرِ ربهم ـ جلَّ جلال الله، وعظُم في كونه: أرضًا وسماء شأنه، وتقدستْ آلاؤُه.
قال الزمخشري صاحبُ الكشَّاف:(قال إبراهيم فى جوابه عليه: “سَلاَمٌ”بالرفع، لإفادة الدوام والثبات عن طريق الجملة الاسمية، التى تدل على ذلك، وللإشارة إلى أدبه معهم، حيث رَدَّ على تحيتهم بأفضلَ منها)، وذكر ابنُ كثير نحوًا من ذلك، وأضاف في تفسيره قائلًا:”قالوا سلاما قال سلام” :الرفع أقوى، وأثبتُ من النصب، فَرَدُّهُ أفضل من التسليم؛ ولهذا قال تعالى:(وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) (النساء ـ 86(، فالخليل اختار الأفضل .

* د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية
[email protected]