إن موسكو، التي تخوض في ملفات عدة، من أوكرانيا إلى مواجهة الدور الأميركي وتحريض الأوروبيين عليها، إلى ملف تصدير الغاز، وجدت في قمة (منظومة شنغهاي) بديلا «للمنظمات المتمركزة حول الغرب»، بل في مواجهتها لكسر الأحادية..

قمة دول منظومة (شنغهاي) التي عُقدت على مستوى الرؤساء مؤخرًا، كانت أول مناسبة دولية كبيرة يشارك فيها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ انطلاق شرارات الحرب في أوكرانيا. حيث سعى الرئيسان الروسي، والصيني (شي جين بينج) لتأمين مواقف مساندة لروسيا في مسألة أوكرانيا، وإلى تحشيد قادة دول المنظومة إياها خلف ما يُمكن اعتباره العمل من أجل إقامة نظام دولي جديد، وتحدي القطبية الأحادية الأميركية، التي يبدو بأنها صارت متراجعة تمامًا في ظل التحوُّلات الجارية في العالم بأسره. بل عدَّ البعض من المراقبين قمة (سمرقند) الأخيرة لدول منظومة شنغهاي، بمثابة تحدٍّ للنفوذ الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة.
لقد تَأسَّست منظومة (دول شنغهاي) عام 1996، بمبادرة روسية صينية، وضمَّت، في حينها، كلًّا من: الصين، روسيا، قرغيزستان، طاجيكستان وكازاخستان، قبل أن تتحوَّل، في عام 2001، إلى (منظَّمة شنغهاي للتعاون)، بهدف تعزيز الأمن الإقليمي ومواجهة تحدِّيات الإرهاب، في مناطق تُعد رخوة من قبل واشنطن وروسيا على حدٍّ سواء، وتحديدًا بعض دول الاتحاد السوفييتي السابق الواقعة في (آسيا) الوسطى. وهي دول إسلامية على كل حال.
منظومة (دول شنغهاي)، فيما لو قُيض لها، أو كُتِبَ النجاح لمسيرتها، فإنها قد تتفوق على مجموعة دول الاتحاد الأوربي بعدَّة مجالات، السياسية منها على كل المستويات نظرًا لوجود دولتين مثل الصين وروسيا في عدادها، وكذلك التجارة، وفي تشغيل عجلة الاقتصاد، خصوصًا مع اكتنازها معظم دولها للثروات الباطنية، والنفط والغاز... وهو ما يُسلحها بعناصر القوة والثبات في حال تماسكت بين بعضها البعض، وتعاونت في المجالات التي تصبو إليها بالرغم من الصيغة الأولى التاسيسية لإعلانها عند قيامها عام 1966، واعتبار البعض أنها ليست سوى منظومة للتعاون (الأمني) بين دولها فقط. ولأهمية، تلك المنظومة، ولإمكانية نجاحها حال تضافرت جهودها مجتمعة، نُشير إلى أن مساحة الدول المنضوية في إطارها، تبلغ أربعة وثلاثين مليون كيلومتر مربَّع (الأكبر مساحةً في العالم)، فيما يقارب عدد قاطنيها ثلاثة مليارات نسمة، أي ما يمثِّل 40% من سكَّان العالم، فضلًا عن أنها تشكّل مجتمعةً 30% من الاقتصاد العالمي، وهي تضمُّ أربع دول نووية، وعضوان دائمان في مجلس الأمن الدولي هما: الإتحاد الروسي وجمهورية الصين الشعبي، وهو ما يعطي تلك المنظومة وزنًا سياسيًّا معتبرًا.
وتتشكَّل المنظّمة حاليًّا من الدول الآتية: جمهورية الصين الشعبية، الاتحاد الروسي، كازاخستان، قرغيزستان، طاجيكستان، أوزبكستان، الهند، باكستان، وإيران، فيما تضمُّ أيضًا دولًا غير أعضاء، بل بصفة مراقب، ومنها: بيلاروسيا، أفغانستان، منغوليا، نيبال، كمبوديا، أرمينيا وسريلانكا. ولا نخفي القول بأن بعض الدول العربية، تتمنى الانضمام لتلك المنظومة في الوقت الذي تراه مناسبًا. لقد انتهت مؤخرًا، أعمال قمة منظومة (دول شنغهاي) للتعاون في العاصمة الأوزبكستانية (سمرقند)، بمشاركة رؤساء أربع عشرة دولة. وتخللتها اللقاءات الجانبية المهمة، ولقاءات ما وراء الكواليس، والتي عالجت ملفات شائكة، بما فيها ملف أوكرانيا ودور الولايات المتحدة في تسعير الأوضاع في وجه روسيا، وملاحقتها بعقوبات فرضتها عليها ـ بل وطالبت واشنطن الأوروبيين بالالتزام بها ـ وصولًا إلى الملف السوري، وإن طغت عليها في جانب مهم المواضيع ذات الطابع الاقتصادي، وهي الأساس كما أُعلن في البيان الختامي لأعمال القمة.
ومن المؤكد، وفق المعطيات التي تمخضت عن أعمال قمة دول شنغهاي في العاصمة الأوزبكستانية (سمرقند)، إن كان الجانب الأمني المتعلق بأمن تلك المناطق الشاسعة للدول إياها له الحيز من النقاشات، لكنه لم يكن الأساسي أبدًا، كما يعتقد ويقول ويروِّج البعض، فالمنظومة وبثقل روسيا والصين الشعبية، تسعى حقيقة لتوليد قطبية مُتعددة على أرض المعمورة، عبر التكتل السياسي، فضلًا عن تطوير اقتصادات البلدان إياها، فكان هذا الأمر الدافع الأول إلى التعاون فيما بينها، ومن بينها في الجانب الاقتصادي تطوير مسارات خطوط التجارة، والسكك الحديدية لتأمين نقل منتجات ومواد صناعية وغيرها، وبقيمة تقترب من خمسة وسبعين مليار دولار إلى أوروبا وبلدان الشرق الأوسط...
والشيء اللافت والمثير للاهتمام في أعمال القمة، كان حضور الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، لأعمالها، ولقاؤه الطويل مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إضافة لحضور إيران بعد نيلها صفتها كعضو كامل العضوية في منظمة دول شنغهاي. فالقمة اتجهت لواقع تأسيسي يبدو فيه أنها تعمل على إنجازه لتصبح تركيا، في وقتٍ لاحق، عضوًا كاملًا في منظومة دول شنغهاي للتعاون. ويرى بعض المرقبين اندفاعة تركيا لتعزيز علاقاتها بـ(منظّمة شنغهاي)، كتعزيز للتوجُّه الآسيوي لتركيا في كلِّ المجالات، بعد كل محاولاتها لنيل عضوية المجموعة العربية خلال العقود الثلاثة الماضية، حيث فشلت في هذا المسعى نتيجة رفض غالبية دول الاتحاد الأوروبي قبول تركيا في عضوية الاتحاد، مع أنها عضو بالحلف الأطلسي ولها حضور كبير في القوة العسكرية لحلف الأطلسي، وتحديدًا في عديد الطاقة البشرية الأساسية في الحلف.
إن موسكو، التي تخوض في ملفات عدة، من أوكرانيا إلى مواجهة الدور الأميركي وتحريض الأوروبيين عليها، إلى ملف تصدير الغاز، وجدت في قمة (منظومة شنغهاي) بديلا “للمنظمات المتمركزة حول الغرب”، بل في مواجهتها لكسر الأحادية، في وقت يزداد الضغط فيه على موسكو بشأن أوكرانيا، وتقوم واشنطن بنشاطها في بحر الصين، وهو ما يفاقم من غضب بكين من دعم سلوك الولايات المتحدة المترافق بالإسناد العسكري وتوريد السلاح إلى تايوان. فهل تكون قمة دول (منظومة شنغهاي) البداية لإعادة تشكيل (نظام دولي جديد)، وتنتهي القطبية الأحادية التي تترنح الآن؟ ننتظر المرحلة القادمة المليئة بالمفاجآت حال توقفت الحرب في أوكرانيا، وعادت أمور الشرق الأوسط للاستقرار النسبي.

علي بدوان
كاتب فلسطيني
عضو اتحاد الكتاب العرب
دمشق ـ اليرموك
[email protected]