لم تَعُدْ قضية هروب العامل الوافد في ظل المخاطر الناتجة عنها حالة خاصة تهمُّ العامل الهارب بقدر ما هي قضية مجتمعية مقلقة للمواطن والمجتمع والجهات المعنية، إذ باتت تمارس بشكلٍ استفزازي وبصورة جماعية منظمة، ناهيك عن الظواهر السلبية التي باتت تُمارس من قِبل العمال الهاربين بما يهدد منظومة الأمن والسلم الاجتماعي، ويعيد إلى الواجهة صورة العمالة السائبة التي تسرح في البلاد تنهب خيراتها وتسيء إلى مواردها وتنشر سلوك اللامبالاة والتحايل على القانون بتصرفاتها، واتخذت على عهد قريب مسارا منظما يتفق فيه جملة من العمّال على الهروب من مواقع عملهم للعمل في بيئات أخرى (اقتصاد المواسم البحرية والسياحية والزراعية) بعيدا عن الأنظار للحصول على مكاسب مالية أسرع، أو أعمال أخرى خارج النشاط المسجل لهم في بطاقة العمل، ولما بات يثيره ارتفاع معدلات الهروب من العمل من فرص لهذه الفئة للتمادي والاستهتار وعدم المبالاة ووضع المواطن في وضع صعب ومعاناة مستمرة أخذت منه ماله وضيعت وقته وجهده، وسلبت حقه الذي بذله من أجل الحصول على ترخيص عامل للعمل في أرضه الزراعية أو تربية حيواناته أو مساعدته في مشروعه الاقتصادي البسيط، يستوي في ذلك أيضا عاملات المنازل، لتتبدد أحلامه وتضيع أمواله، حتى أصبح العامل الهارب يجد في مساحة المرونة المتاحة له، وبطء الإجراءات في التعامل مع قضية العمال الهاربين والسماح له في الانتقال إلى كفيل آخر بعد انتهاء مدَّة العقد بدون الرجوع إلى الكفيل الأول، فرصة استغلها هؤلاء في التنقل في البلاد بدون رقابة ضمير أو ردع تشريعي لهذا العامل الهارب ولمن بعده، وتجريب أعمال وأنشطة أخرى مع أشخاص آخرين، وباتت الشركات الكبيرة التي يقوم عليها أعوان هذه الفئة من العمالة الآسيوية وغيرهم مرتعا خصبا لاحتوائهم لحين انتهاء مدة العقد.
ومع القناعة بأن طرح مفهوم المواطن ـ إجمالا ـ في مقالنا غير وارد، نظرا لما يثبته واقع العمل والمبررات التي تعتمد عليها جهات الاختصاص من أن سلوك بعض المواطنين وتصرفاتهم في هذا الشأن أحد الأسباب التي وضعت هذا الملف في الصورة الحالية، غير أننا ندرك أيضا أنه ليس من الحكمة أن تكون هذه التصرفات غير المسؤولة من البعض، أن تضع جميع المواطنين في كفة واحدة، فهناك من المواطنين من هو متضرر وضحية ـ وهم شريحة كبيرة من المواطنين المخلصين المطبقين للقانون والعاملين بما تقرُّه سياسات الدولة من نُظم وإجراءات والتزامات بكل إجراءاتها وتفاصيلها ـ وما يعنيه ذلك من أن المسألة التشريعية والضبطية ينبغي أن تقرأ في سلوك الأغلبية من المواطنين والضرر المادي والمعنوي الواقع عليهم مساحة لروح القانون، إذ العدالة تُحتِّم عدم وضع جميع أصحاب العمل (الكفلاء) في كفة واحدة، الأمر الذي تسبب في إحداث هذا الارتباك، وأوجد هذه المساحة من الفجوة في استيعاب هذه التغييرات في لوائح العمل، وتعاظم المشكلات المرتبطة بالعمال الوافدين ومخاطرها، كما أوجد حالة من عدم الثقة بين المواطن والجهات المعنية في ظل معاناته المتكررة واستغاثاته التي قلما وجدت تبريرا مقنعا لها من جهات الاختصاص.
وفي المقابل ندرك أيضا استفادة الشركات الكبرى والمشغّلين الذين يستوعبون العمال الهاربين في عدم تسجيلهم في التأمينات الاجتماعية أو عقود العمل لغير العُمانيين، حتى لا يتم اعتبارهم جزءا من منظومة العمل لديهم، بما يُوهم الجهات المعنية بأن نسبة التعمين فيها جاءت متفقة مع المنصوص عليه في التشريعات، بينما في حقيقة الأمر أن هؤلاء العمّال الهاربين باتوا يُشكِّلون رقما صعبا في هذه الشركات أو مؤسسات القِطاع الخاص، وحصولها على عمال بأسعار تفرضها الشركة أو المشغل لهم وبمهام يختارها لهم دون أن تكلفه أي مستلزمات ترتبط بمعايير الأمن والسلامة أو بعقود محددة أو برواتب معلومة، نظرا لما تفرضه أنظمة الشركات من قوة في مواجهة ضعف هذا العامل عن اتخاذ أي إجراء أو القيام بأي مناورات غير محسوبة خارج العمل، وما يتوقع من الإبلاغ عليه كونه حالة غير قانونية وهو ملاحق من العدالة في حين أن وجوده تحت رحمة هذه الشركة أو المشغلين له رغم مساوئها، إلا أنها فرصة له في البقاء بعيدا عن الأنظار، ومنع تعقب أو وصول الجهات الرقابية والتفتيشية والضبطية إليه، ناهيك عن أن مثل هذه التصرفات التي بات يمارسها المواطن المشغّل أو المتستّر على العمّال الهاربين، تسيء لكل الجهود الوطنية الساعية إلى تمهين هذا الملف وتنظيمه وإدارته وضبط مدخلاته وعملياته، وأصبح الكثير من القرارات فيه تبنى على السلوك السلبي الفردي لبعض المواطنين ـ الذي لا ينبغي تعميمه ـ وهو ما أعطى المنظمات الدولية وحقوق الإنسان الرسمية وغير الرسمية فرصة في الاصطياد في الماء العكر، وجعل الممارسات الفردية الحاصلة من البعض شماعة لفتح ملف الوافدين وعبر التقارير التي باتت تروج لهذه الفئة غير المنضبطة في عملها أو غير المحترمة لقواعد وأخلاقيات العمل، وتمنحها استحقاقات وفرص نجاحات رغم مخالفتها للقانون، مما أكسبها الثقة الزائدة في تصرفاتها، ووفر للعمال الهاربين مزيدا من المكاسب المقدمة لهم من المشغّلين غير القانونيين، سواء كانوا مؤسسات أم أفرادا، ليسدَّ عنهم بعض الفراغات، أو يحقق لهم أرباحا معينة في فترة مواسم اقتصادية معينة، وبدل أن يشعر بالخوف والقلق من عقابه ومراقبته، وتشجيع الآخرين على التعريف به والإبلاغ عنه أصبح يعيش حالة من الاستقرار النسبي، إذ لا ضير عليه أن يبتعد عن الأنظار لفترة معينة وبعدها يستطيع أن يعيد ترتيب أموره بالانتقال إلى كفيل آخر، ناهيك عن أن آلية تسجيل بلاغ ترك العمل وما يحصل فيها من إجراءات مطولة ومبالغ كبيرة يدفعها المواطن يضع من هذه الممارسات فرصة لهذا العامل في الاستمرار في اختفائه عن الأنظار ودعوة له للتمادي لحين انتهاء عقد العمل، وعندها ستكون فرصته في العودة لبلاده كبيرة إذ تذكرة السفر جاهزة والمبالغ المرصودة له جاءت تقديرا له على هروبه.
لذلك أصبحت المسألة مفهومة بتفاصيلها من قبل هؤلاء العمال وبشكلٍ خاص العمال الصغار الذين يقلُّ يقع عمرهم الزمني الفعلي بين 18- 26 سنة، وكأنَّ وجود كفيل العمل الأول هو مجرد جواز دخول لسلطنة عُمان وفرصة سانحة للبدء بتثبيت نفسه، وبعد أشهر بسيطة جدا أو كما يظهر من بعض الحالات لمجرد وصوله إلى المطار يكون قد رتب مكانا آخر للعمل فيه والأشخاص الذين سيعمل معهم دون الحاجة لهذا الكفيل الذي دفع ماله من أجل أن يصل هذا العامل إليه لحاجته الملحَّة له، وهناك الكثير من العمال الذين استقر بهم الأمر في السلطنة لسنوات سابقة باتت تدير مثل هذه الحالات بشكل اعتيادي، وأصبحت هي من تحدد أين فرص العمل المتوافرة والمواسم الاقتصادية لها، بحيث يوجّه هذا العامل الجديد إلى هذه البيئات بشكل مقصود، بينما في ظاهر الأمر أنهم لا يعرفون عنه شيئا، وعبر اتفاق مسبق وتعارف في أماكن هروبهم والأشخاص الذين يستقبلونهم ويوارونهم عن الأنظار، يتخيرون لهم العمل في المنازل أو المزارع أو المطابخ أو عزب تربية المواشي والجمال أو سفن الصيد الحرفي أو غيرها من الأماكن مستغلين المواسم الاقتصادية والسياحية بعيدًا عن أعين فرق التفتيش.
في ظل هذه المعمعة من الأحداث والمواقف والشكاوى المتكررة من هروب العمال الوافدين، وهذا التسارع المريب في هروب العمّال بدون أي سبب يدعو لذلك، وبعد وضوح الصورة وواقعية القصص والمواقف التي يرصدها الواقع في ذلك، مما بات يعاني منه الكثير من البيوت التي دفعت ما لديها من أموال من أجل استقدام هذا العامل أو العاملة، ألا يدعو ذلك إلى وقفة تأمل ومراجعة لهذا الملف واتخاذ إجراءات تتناسب مع الحالة العُمانية والبُعد الأمني والاجتماعي والاقتصادي الذي بات تثيره قضية هروب العمال الوافدين؟ أليست هذه الأمور كفيلة بإعادة هندسة هذا الموضوع، وتقييم هذا الملف، ورد الأمور إلى نصابها، وتمكين القانون من المحافظة على معادلة القوة لتكافؤ الحقوق والمحافظة على الواجبات؟ فوضع جميع المواطنين في موقف المتهم والمذنب وأنهم السبب في هروب هذا العامل أمر غير مقبول، كما أن نفي التهمة عن العامل الوافد بمنحه فرص التنقل في البلاد والهروب من القانون والعدالة بتذكرة سفر مدفوعة التكاليف فور الحصول عليها أمر يثير الدهشة والاستغراب حول ما قد يصل إليه هذا الأمر على المدى البعيد، ونتائجه الكارثية على الخصوصية الوطنية، والمكاسب التي تحققت في ملف منع التجارة المستترة، والعمال السائبة وغيرها من الأمور التي يقف المشرع العُماني منها موقف الحسم ويمنع حدوثها، بينما تتم ممارستها بكل تخطيط وتنظيم من قبل هذه الفئة بدون رقيب أو حسيب أو أدنى فعل يضبط هذه الفئة ويجعل من هروبها خطرا يهدد الفرد والمجتمع.
أخيرا، فإن تزايد ارتفاع هروب العمّال الوافدين بات يدق ناقوس الخطر ويضع علامات استفهام كبرى حول آليات العمل الوطنية في إدارة هذا الملف، كما يؤسس للحاجة إلى مزيد من التشريعات الضبطية، أو مراجعة للتشريعات القائمة وإعادة تطويرها وإنتاجها بما يتوافق مع المستجدات الحاصلة، ونعتقد بأن الاستماع إلى المواطن وتحديد شكواه والوقوف معه في تبنِّي حلول وبدائل مقنعة في مراجعة ما تم في هذا الشأن، بالإضافة إلى تدارك الأبعاد الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية التي بات يثيرها هروب الوافدين والإرهاصات القادمة التي ستبرز في انتشار العمالة السائبة والتجارة المستترة والمخاطر التي باتت تنتج عنها على حياة الفرد والمجتمع.. فهل سيُحدث ارتفاع هروب العمّال الوافدين صرخة مدوية تصل إلى قلب كل ذي مسؤولية يدرك فيها استغاثة مواطن مخلص، التزم بالقانون وعمل بمقتضياته وسعى رغم قلة ما يجده من مال إلى الاستدانة والسلفة من أجل أن يصل هذا العامل إليه، لتعيد الأمر إلى نصابه، وتفتح للمواطن منافذ أمل للخروج من هذه الحلقة المفرغة، والدوامة التي أثقلت كاهله وأدارت برأسه في ظل فراغ كفاية الضوابط وإنتاجيتها وقدرتها على المحافظة على حق المواطن؟

د. رجب بن علي العويسي
[email protected]