كلما زرت الجبل الأخضر تعاودني ذاتها الأسئلة ويشغلني تفكيري ويقلقني همُّ حال السياحة وتناقض الواقع مع الخطط والاستراتيجيات، ضعف الخدمات وشحها وهشاشة بنيتها التحتية مع الشعارات والتنظيرات..
قال عنه الإمام السالمي في “التحفة” “وفي عُمان الجبل الأخضر ويقال له “رضوى” وهو من عجائب الدنيا، مملوء بالفواكه من الرمان والعنب والجوز والخوخ والمشمش والبوت، وفيه الرياحين كالورد والزعفران والآس والنرجس...”. ووصفه الشيخ محمد بن عبدالله السالمي في “النهضة” بأنه “جبل عظيم الارتفاع، صعب الامتناع، لا يتوصل إليه إلا من طرق مخصوصة، تتشعب منه تسعة أودية...”.
وذكره الشيخ سالم بن حمود السيابي في كتابه “العنوان في تاريخ عُمان” فقال عنه “يقع في قلب عُمان ككرسي لها، وكحوض خزان لمائها، يرتفع عن الأرض بآلاف من الأقدام والأمتار، وهو أخصب الجبال العُمانية، وأعلاها ارتفاعا، وأشدها بردا....”. ويكاد لا يوجد كتاب يتحدث عن عُمان إلا والجبل الأخضر يتردد في صفحاته فهو قلب عُمان، لامتلاكه الموقع الاستراتيجي والطقس المتفرِّد والمكانة التي يشعر فيها الإنسان بالأمن، إنه الرئة التي تتنفس منها عُمان هواء نقيا صحيا ومنتجعها الصيفي، هو عاصمة الجمال والاستجمام والراحة، بالخصوص في فصل الصيف. وقد زرت ولاية الجبل الأخضر مرات كثيرة، وأخذت جولات في القرى الآسرة والفاتنة التي تتناثر في سفوحه وقممه، طفنا في أزقة حاراتها واستمتعنا ببساتينها الوارفة، وأكلنا ما لذَّ وطاب من ثمار أشجارها الظليلة من الرمان والعنب والخوخ والمشمس والتوت... وتعطرت أنفاسنا من ماء ورد الجبل المشهور برائحته الزكية ومن عبير زهوره الندية وأريج أعشابه البرية... وغير ذلك الكثير.
فهنا في أحضان قرى وادي بني حبيب ـ سيق ـ العين ـ الشريجة المناخر ـ حيل اليمن... ننسى الدنيا وأوجاعها، والحياة وصراعاتها، والبشر وحروبهم، وتنشغل النفس عن وساوسها وعن قراءة واستطلاع ما يخبئه الغد من أحداث جسام، ويرتاح العقل من التفكير في الوظيفة وهمومها، والمشروع وأرباحه ومشاكله وخسائره، والرصيد الذي يكاد أن ينفد والجيب الذي تسرب منه آخر ريال، والأبناء ومستقبلهم وتعليمهم والديون التي تستنزف شركات التمويل والبنوك من الراتب نسبته الأكبر، ووسائل التواصل وتشاؤميات المغردين والفاعلين عن الكساد الاقتصادي وجائحة كورونا وخسائرها البشرية، وأعداد الباحثين والمسرحين المتصاعدة، والمشاريع التي تعلن افلاساتها، وعشرات القضايا والملفات المتأزمة، ننسى نتائج فحوصات السكري والضغط والكوليسترول والقلب وما يضر وينفع من وجبات غذائية ووصفات دوائية... مما يقيد حياتنا وتحركاتنا ونظامنا الغذائي، فلا ترى العين هنا ولا تسمع الأذن ولا يشعر القلب ولا يحس الجسد إلا بنسمات هواء عليل، وزقزقة عصافير تحلق من مكان إلى آخر فرحة جذلة، وثغاء ماعز ونقيق ضفادع وهديل حمام ونجوم تضيء السماء وسحابات تتجمع فتمطر وتخصب... أجواء تعيدنا عقودا إلى سنوات الصبا والبراءة والطمأنينة والصفاء والحب والحرية، إلى سواقي القرية وأفلاجها المتدفقة وأزقتها وضواحيها وجمال الحياة الفاتن، فمن أين سيتسرب إلينا الهمُّ والغمُّ والإحباط والمشاكل النفسية؟ يا لهذه الطبيعة البكر وعناصرها وتشكيلاتها ومخلوقاتها التي تتحرك وتنشط وتتقافز وتطير من غصن إلى آخر ومن ساقية الفلج إلى “جلبة” البستان، ومن شجرة جوافة إلى جذع سدرة تظللان المكان وتداعب أغصانها نسمات العليل.
كلما زرت الجبل الأخضر تعاودني ذاتها الأسئلة ويشغلني تفكيري ويقلقني همُّ حال السياحة وتناقض الواقع مع الخطط والاستراتيجيات، ضعف الخدمات وشحها وهشاشة بنيتها التحتية مع الشعارات والتنظيرات، هذا الموقع الاستراتيجي المتفرد، وهذه القرى التي تشبه ريف دمشق وطبيعة بلدان شرق المتوسط، بمدرجاتها الخضراء وأنواع أشجارها التي لا تصلح إلا في هكذا طقس متفرد، هذا الهواء العليل والطقس المعتدل في صيف قاسٍ وحار تتجاوز درجته الـ٤٥ درجة في الأسفل، كيف لا يستثمر ويستغل ويوظف لتعزيز قِطاع السياحة وزيادة نسبة مساهماتها في الناتج المحلي؟ وتهيئة وتقديم موقع استراتيجي يتمتع بالطبيعة والخدمات السياحية المتكاملة، جاذبا للسائح في الداخل ومن الخارج. الاستثمار في الجبل الأخضر وجعله منطقة جذب سياحي مطلب مجتمعي قديم، تشاركه فيه الرؤى والخطط والبرامج الحكومية، وما زال هذا المطلب يضغط ويتجدد وينمو، فما الذي يعطل هذه التطلعات الطموحة؟ لماذا لا نرى مشاريع متكاملة ومزارع نموذجية وخدمات سياحية وبنى تحتية متنوعة وقوية؟ لماذا لا يصار إلى إنشاء مطاعم ومقاهٍ حديثة ومجمَّعات تجارية عصرية، مماشٍ وتلفريك وحدائق وملاهٍ، و”فتح الاستثمار للمواطنين” وشركات الاستثمار” بشكل منظم”، فالجبل الأخضر كما يراه أحد المغردين في حسابه، “كنز يحتاج إلى استكشافه فقط، خلال ساعة أو ساعة ونصف، من مسقط فرق درجة الحرارة أكثر من ١٣ درجة أقل في العشرينات، تحتاج بعض التحسينات والتجميلات فقط وبعض المشاريع الترفيهية الجاذبة”.
صحيح بأن فنادق من فئات مختلفة تتناسب مع أذواق وإمكانات السائح افتتحت وأخرى لا تزال في طور الإنشاء، ولكن الجبل يحتاج إلى سياسة سياحية مستدامة، تحفز السائح على البقاء والاستمتاع بالخدمات المتكاملة التي ترضي متطلبات واحتياجات جميع أفراد أسرته وتشجعهم على العودة مرات، أما السائح على ضوء المتوافر فلا يقوى على البقاء إلا لفترة وجيزة جدا، خصوصا إذا كان برفقة أسرته، فإلى أين سيذهب؟ وكيف يقضي يومه ويرفه عن نفسه؟ وما البرنامج الذي سوف يضعه لسياحة أيام في الجبل الأخضر؟ بعد ترقية الجبل الأخضر من “نيابة” إلى “ولاية”، وعلى ضوء تنظيم بعض الأنشطة الثقافية والاجتماعية واللقاءات الإعلامية والتغطية الجيِّدة لمكانته السياحية والاقتصادية، نتنمى ونتطلع بأن يشهد الجبل الأخضر نهضة شاملة وتحوُّلا كبيرا في البنى التنموية والسياحية والترفيهية ترضي ساكنيه، وتجعل منه مكانا مختارا ومقصدا مُهمًّا للسياح من الداخل والخارج، وبأن يعزز فرص التوظيف ويسهم إيجابا في موارد الحكومة.

سعود بن علي الحارثي
[email protected]