قِصَّتي اليوم من طبيبة أنهكها الانتظار لأجْلِ قُلوب صغيرة لطالما اعتنت بها، وعيُها الروحي وإمكاناتها الإنسانية المرهفة تبثُّ شَجْوَ ما تراه في عيادتها من أنينٍ على رجاء أنْ يصلَ الصوتُ بالكثير من الأمل.
على عتبات بوَّابة مركز غسيل الكُلَى تُحضر الأُمُّ بناتها الثلاث لجلسات غسيل السموم المتراكمة، في رحلةٍ مُنهِكة لا تنتهي، بل تستمرُّ بتراكُمِ ساعاتهنَّ في هذه الحياة ليحصلنَ على غسلةٍ أخرى تُعيد لهنَّ أنفاسهنَّ المهدورة بَيْنَ المستشفيات، تتأمَّل وجوههنَّ التي ارتسمَ الوُجومُ والترقُّب عليها لمستقبَلٍ مجهول وهنَّ يحضرنَ الجلسات التي لا تخلو من تعقيدات ولكنْ لا حلَّ لهنَّ غيرها، لتبدو كلُّ واحدةٍ منهنَّ كعجوزٍ في الثمانينَ من عُمرها، تقضي ساعاتها في هذه البقعة المليئة بالأوجاع.. الحضورُ لغسيل الكُلى يكُونُ ثلاثَ مرَّاتٍ أسبوعيًّا، وإرهاقُ الانتظار كلّه لا يُعادل بأسَ الأُمِّ عند سماعها بوفاةِ مريضٍ مُجاورٍ على الجهاز.
رحْلتُها الشقيَّة لا تنتهي هنا، بل تخنق أنفاسها المُتهدِّجة بخيارات تثقل كاهلَها، فَهِيَ كأُمٍّ لنْ تتوانى عن ضخِّ روحِ الحياة فيهنَّ، وتسخيرِ نَفْسِها وطاقاتها لإسعادهنَّ وتحسينِ حياتهنَّ. لا سِيَّما أنَّ الأبَ مُصابٌ بفشَلٍ كُلوي أيضًا، حانَ موعدُ التبرُّع، ولكنَّها لا تمتلك إلَّا كُليتيْنِ وقَلْبًا واحدًا ينبضُ ليحتضنَ حبُّ ثلاثِهنَّ بالتَّساوي.. يا تُرى مَنْ ستختارُ منهنَّ لتتبرَّعَ لها بكُليتها، وثلاثُهنَّ خرجْنَ من أحشائها وأفئدة روحها، قَلْبُها المُهشَّم لا يُطاوعها بأنْ يتوقَّفَ عطاؤها عند واحدةٍ منهنَّ وتتركُ الأخريَيْنِ تحت رحمة القدر.
الكثيرُ من الحكايات المُؤلمةِ.. عشراتُ المَرضَى تُحدِّقُ أعْينُهم بيأسٍ كثير، وقليلٍ جدًّا من بصيصِ الأملِ، جُلُّ أحلامِهم عمليَّة زراعة كُلًى.
لَسْنا ببعيدٍ جدًّا عن تجارة الأعضاء؛ هذا النَّفق المُظلم الذي يُجبر هؤلاء اليائسينَ المُنهَكةَ أرواحُهم من التعامل مع هذه العصابات التي لا تمُتُّ بِصِلَةٍ للإنسانية، يتشبَّثُ المريضُ بهم كغريقٍ يتمسَّك بقشَّةٍ في ظُلمات البحر، مخاطرًا بكُلِّ ما لدَيْه لِيَعودَ بعد عمليَّة الزراعة بعد أنْ دفعَ أموالًا طائلةً، وتحمَّل مشقَّةَ السَّفر وعناءَ المُخاطَرة وظروفَ عمليَّةِ الزراعة المُريبة، كُلًّها تَهونُ كثمَنٍ لحياة جديدة.
ليتفاجأ بعد العودةِ بأنَّ الكُلى المزروعةَ تالفةٌ ومُحاطةٌ بالفطريات، ووضْعَه الصِّحي في حالة تدَهورٍ ويحتاج إلى عمليَّةٍ عاجلة لإخراجها، والآخر يكتشفُ أنَّه لَمْ تُزرعْ له كُلْية، بَلْ فُتِحَ بطْنُه، وأُغلِقَ بدُونِ أيَّةِ زراعة، ورجعَ بقَيْحٍ شديدٍ في الجُرح لِيَضعَه في حالةٍ حَرِجة، والآخر الكُلْيةُ التي زُرِعَتْ له مُلوَّثةٌ بمَرَضٍ مُعْدٍ لِتأخذَه إلى نقطة الصِّفر بكثيرٍ من الأَسَى المُضاعف.
عاد هؤلاء المَرضى بخيبةٍ بعد حياةٍ غائمةٍ بالمُعاناة مع جلسات غسيل الكُلَى لِشَقاءٍ مُمتدٍّ بذُبولٍ كسِيرٍ يرفُّ على بياضِ أعيُنِهم، يفضحُ إجرامَ مافياتِ زراعةِ الأعضاءِ بمختلفِ طُرقِها بعد توقُّعاتٍ عارمةٍ، وتحوُّلِ أحلامِهم دخانًا من هباء.
وهناك آخر نجحتْ عمليَّةُ الزراعة ليتبيَّنَ بعد عودتِه أنَّ الكُلْية التي زُرِعتْ له هي كُلْيةُ طفلٍ ليظلَّ في دوَّامةٍ بأنَّ هُروبَه من مصيرِه المُفجع قد يكُونُ دفَعَ ثمنَه طفلٌ قُدِّمَ قربانًا لِحَفْنةٍ من المال، يا تُرى مَنْ هذا الطفلُ؟ وكيف تمَّ استخراجُ كُلْيتِه؟ يا تُرى هل تمَّ بيعُ كُلْيتِه من أهلِه؟ أم خُطِفَ وتمَّ قتْلُه؟
لَمْ أرْدْ يومًا أنْ أكُونَ سببًا في سَلْبِ روحٍ بريئةٍ حقَّها في هذه الحياة رغم تحرُّري من جلسات الغسيل، ولكنْ أصبَحتْ أنفاسي مُقيَّدةً مع زفرات ذلك الطفلَ المجهول.
يتصيَّدُ سماسرةُ تجارة الأعضاء ضحاياهم، ويستقطبونهم من المناطقِ الفقيرة، ولا يعطونهم إلَّا الفُتات عن العُضوِ المُباعِ، فغالبيَّتُهم من الفقراء والنساء والأطفال، الذين يتمُّ الاحتيال عليهم أو استغلالُ ضَعْفِهم وظروفهم المادِّيَّة لبيْعِ أعضائهم بمبلغٍ زهيد، كما أنَّ هناك الكثيرَ من العصابات التي تخطفُ البَشَرَ لِسرقةِ الأعضاء ويتمُّ قتلُهم بعد ذلك. والنَّوعُ الآخر من ممارساتِ هذه العصاباتِ الإجرامية هو استغلالُ الفقراءِ والمُشرَّدين والمُهاجرِين؛ بسبَبِ مَرضٍ قد يكُونُ موجودًا أو غير موجود، وتتمُّ إزالةُ الأعضاءِ أثناءَ العملياتِ الجراحية من دُونِ معرفة الضحيَّة.
فشَلُ الأعضاءِ لا يستثني أحدًا، فَلْنوقِفْ هذه المآسي، ولْنَنْشُرْ بَيْنَنا ثقافةَ التبرُّع بالأعضاءِ أثناءَ الحياةِ وبعد الوفاةِ، فمقابلُ كُلِّ روحٍ تُزهقُ هناك حياةٌ تُوهَبُ من جديدٍ. كمَا يَجِبُ تضافرُ جهودِ مختلفِ القِطاعات لدعْمِ البرنامج الوطني لنقْلِ وزراعةِ الأعضاءِ والأنسجةِ البَشَريةِ لإذكاءِ ثقافةِ التبرُّع بمختلفِ أشكالِه للإسهامِ في تخفيفِ مُعاناةش مَرْضَى الفَشَلِ العُضوي.

د. رقية بنت إسماعيل الظاهرية
طبيبة وكاتبة عُمانية