الحمد لله الذي شرَّفنا بجعلنا أمة الأخلاق والصلاة والسلام على أفضل الخلق وأكملهم أخلاقًا، محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه أجمعين،
أما بعد:
الصبر شيء عظيم نشأ عليه النبي (صلى الله عليه وسلم) وترعرع وهو يلاقي كل يوم نوعاً من البلاء، فقد فَقَدَ النبي (عليه الصلاة وأزكى التسليم) والديه فعاش يتيماً وذلك قبل نزول الوحي عليه وبعد نزول الوحي وجد من إيذاء المشركين وسوء معاملتهم الشيء الكثير، بل في بعض الأحيان وصل الأمر إلى محاولة قتله، كل ذلك لم يثنِ النبي (صلى الله عليه وسلم) ولم يضعفه بل ضرب خير مثال في الصبر على البلاء وتحمل المشقة والعناء.
الرسول الأعظم كان أنموذجًا رائعًا في الصبر، كانت نفسه الزكية تحث الناس وتعلمهم الصبر من خلال أقواله وأفعاله، فهذا مثال يوجه الناس أن الصبر يكون بمجرد وقوع المصيبة من أول الأمر، مرَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) ذات يوم على قبر، فرأى امرأة جالسة إلى جواره وهي تبكي على ولدها الذي مات، فقال لها النبي (صلى الله عليه وسلم):(اتقي الله واصبري)، فقالت المرأة:إليك عني، فإنك لم تُصَبْ بمصيبتي، فانصرف النبي (صلى الله عليه وسلم)، ولم تكن المرأة تعرفه، فقال لها الناس: إنه رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فأسرعت المرأة إلى بيت النبي (صلى الله عليه وسلم) تعتذر إليه، وتقول: لَمْ أعرفك، فقال لها النبي (صلى الله عليه وسلم):(إنما الصبر عند الصدمة الأولى).
ويقول الله تعالى:(إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب)، لا شك أن جزاء الصابرين جنة عرضها السماوات والأرض، وما أعظمه من صبر عندما يعذب الإنسان ليتخلى عن دينه، صابرًا متحملا الأذى من أجل رضا رب العالمين، فعندما أسلم عمار بن ياسر وأبوه ياسر وأمه سمية ـ رضي الله عنهم ـ وعلم الكفار بإسلامهم، فأخذوهم جميعًا، وظلوا يعذبونهم عذابًا شديدًا، فلما مرَّ عليهم الرسول (صلى الله عليه وسلم)، قال لهم: (صبرًا آل ياسر! فإن موعدكم الجنة) فبعد أن أمرهم بالصبر، ربط بمصيرهم بالجنة وذكرهم بأن ما يعانوه من عذاب يهون في مقابل ما سيجدونه من نعيم من عند الله أكرم الأكرمين، يقول الشاعر:
إذا ما أتاك الدهـر يومـًا بنكبـة
فافرغ لها صبرا ووسع لها صدرا
فإن تصاريـف الزمـان عجيبـة
فيوما ترى يسرا ويوما ترى عسرا
على المسلم أن يُلِمَ بجميع أنواع الصبر، وللصبر أنواع كثيرة منها الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، والصبر على المرض، والصبر على المصائب، والصبر على الفقر، والصبر على أذى الناس.. إلخ.
دعونا نتكلم عن الصبر على الطاعة، لا ريب أن المكلف مأمور بعبادات ينبغي له تأديتها، وتأدية تلك العبادة يحتاج إلى جهد وعزيمة والتزام بالوقت ولا يتأتى ذلك إلا بالصبر، سأضرب لكم مثالا من علمائنا في الصبر عمومًا والصبر على الطاعة خصوصًا، وهو الشيخ العلامة حمود بن حميد الصوافي فتراه مع كبر سنه إلا إنه من أكثر الناس تمسكًا بالسنة ، يطيل في قراءة القرآن أثناء الصلاة ويكثر من التنفل يُروى عنه أنه كان يلقي درسًا بين المغرب والعشاء وأثناء الدرس بلغه أحد الطلاب بأن القمر خسف فنادى الصلاة جامعة ، قرأ في الركعتين بسورة البقرة كاملة لدرجة أن المأمومين جلسوا جميعهم إلا واحد أو اثنين مع الشيخ ، فيا لها من همة عالية في الصبر على الطاعة.
وصدق عليه قول الشاعر:
الدهر أدبني والصبر ربانـي
والقوت أقنعني واليأس أغناني
وحنكتني من الأيـام تجربـة
حتى نهيت الذي قد كان ينهاني
يقول الله تعالى في سورة العصر (وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)، جعلنا الله من المؤمنين المتواصين بالصبر والمستمسكين به، والحمد الله رب العالمين.
----------------------------------------------------------------------------------------------------
سورة الجن "7"
إعداد ـ أم يوسف
سميت سورة الجن ‏بهذا ‏الاسم ‏لأنها ‏ذُكر ‏فيها ‏أوصاف ‏الجن ‏وأحوالهم ‏وطوائفهم ‏وأيضا ‏سورة ‏‏(‏قُلْ ‏أُوْحِيَ ‏إَلَىَّ‎).
وهي: مكية من المفصل وآياتها (28) وترتيبها (الثانية والسبعون) نزلت بعد الأعراف وتعالج السورة أصول العقيدة الإسلامية "الوحدانية، الرسالة، البعث، والجزاء"، ومحور السورة يدور حول الجن وما يتعلق بهم من أمور خاصة، بدءاً من استماعهم للقرآن إلى دخلوهم في الإيمان، وقد تناولت السورة بعض الأنباء العجيبة الخاصة بهم: كاستراقهم للسمع، ورميهم بالشهب المحرقة، وإطلاعهم على بعض الأسرار الغيبية، إلى غير ذلك من الأخبار المثيرة.
قال تعالى:(وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً ، لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً)
قوله تعالى:(وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) هذا من قول الله تعالى. أي لو آمن هؤلاء الكفار لوسعنا عليهم في الدنيا وبسطنا لهم في الرزق. وهذا محمول على الوحي أي أوحى إلي أن لو استقاموا. ذكر ابن بحر: كل ما في هذه السورة من "إن" المكسورة المثقلة فهي حكاية لقول الجن الذين استمعوا القرآن، فرجعوا إلى قومهم منذرين، وكل ما فيها من أن المفتوحة المخففة فهي وحي إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقال ابن الأنباري: ومن كسر الحروف وفتح "وأن لو استقاموا" أضمر يمينا تاما، تأويلها: والله أن لو استقاموا على الطريقة، كما يقال في الكلام: (والله أن قمت لقمت، ووالله لو قمت قمت)، قال الشاعر:
أما والله أن لو كنت حرا
وما بالحر أنت ولا العتيق
ومن فتح ما قبل المخففة نسقها ـ أعني الخفيفة ـ على "أوحي إلي أنه"، "وأن لو استقاموا" أو على "آمنا به" وبأن لو استقاموا. ويجوز لمن كسر الحروف كلها إلى "أن" المخففة، أن يعطف المخففة على "أوحي إلي" أو على "آمنا به"، ويستغني عن إضمار اليمين. وقراءة العامة بكسر الواو من "لو" لالتقاء الساكنين، وقرأ ابن وثاب والأعمش بضم الواو. و(مَاءً غَدَقاً) أي: واسعا كثيرا، وكانوا قد حبس عنهم المطر سبع سنين ؛ يقال : غدقت العين تغدق ، فهي غدقة، إذا كثر ماؤها. وقيل: المراد الخلق كلهم أي:"لو استقاموا على الطريقة" طريقة الحق والإيمان والهدى وكانوا مؤمنين مطيعين "لأسقيناهم ماء غدقا" أي: كثيرا (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي: لنختبرهم كيف شكرهم فيه على تلك النعم. وقال عمر في هذه الآية:"أينما كان الماء كان المال ، وأينما كان المال كانت الفتنة. فمعنى "لأسقيناهم" لوسعنا عليهم في الدنيا" وضرب الماء الغدق الكثير لذلك مثلا ؛ لأن الخير والرزق كله بالمطر يكون ، فأقيم مقامه كقوله تعالى:(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)، وقوله تعالى:(وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) أي: بالمطر. والله أعلم. وقال سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والضحاك وقتادة ومقاتل وعطية وعبيد بن عمير والحسن:"كان والله أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) سامعين مطيعين، ففتحت عليهم كنوز كسرى وقيصر والمقوقس والنجاشي، ففتنوا بها، فوثبوا على إمامهم فقتلوه". يعني عثمان بن عفان.
وقال الكلبي وغيره:(وَأًنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) التي هم عليها من الكفر فكانوا كلهم كفارا لوسعنا أرزاقهم مكرا بهم واستدراجا لهم، حتى يفتتنوا بها، فنعذبهم بها في الدنيا والآخرة. وهذا قول قال الربيع بن أنس وزيد بن أسلم وابنه والكلبي والثمالي ويمان بن رباب وابن كيسان وأبو مجلز، واستدلوا بقوله تعالى:(فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَئ) .. الآية، وقوله تعالى:(وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) .. الآية، والأول أشبه لأن الطريقة معرفة بالألف واللام ، فالأوجب أن تكون طريقته طريقة الهدى ولأن الاستقامة لا تكون إلا مع الهدى.
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال:"أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا" قالوا: وما زهرة الدنيا؟ قال: "بركات الأرض" وذكر الحديث. وقال (عليه الصلاة والسلام):"فو الله ما الفقر أخشى عليكم، وإنما أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم".
قوله تعالى:(مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ) يعني: القرآن، قال ابن زيد: وفي إعراضه عنه وجهان: أحدهما عن القبول، إن قيل إنها في أهل الكفر، الثاني عن العمل، إن قيل إنها في المؤمنين. وقيل:(مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ) أي لم يشكر نعمه "يسلكه عذاباً صعدا"، قرأ الكوفيون وعياش عن أبي عمرو "يسلكه" بالياء واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لذكر اسم الله أولا فقال:(مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ)، الباقون "نسلكه" بالنون. وروي عن مسلم بن جندب ضم النون وكسر اللام. وكذلك قرأ طلحة والأعرج وهما لغتان، سلكه وأسلكه بمعنى أي: ندخله.(عَذَاباً صَعَداً) أي: شاقا شديدا. قال ابن عباس: هو جبل، في جهنم. "أبو سعيد الخدري": كلما جعلوا أيديهم عليه ذابت. وعن ابن عباس: أن المعنى مشقة من العذاب. وذلك معلوم في اللغة أن الصعد: المشقة، تقول: تصعدني الأمر: إذا شق عليك، ومنه قول عمر: ما تصعدني شئ ما تصعدتني خطبة النكاح، أي ما شق علي.
وعذاب صعد أي شديد. والصعد: مصدر صعد، يقال: صعد صعدا وصعودا، فوصف به العذاب لأنه يتصعد المعذب أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه. وقال أبو عبيدة: الصعد مصدر أي: عذابا ذا صعد، والمشي في الصعود يشق. والصعود: العقبة الكؤود. وقال عكرمة: هو صخرة ملساء في جهنم يكلف صعودها، فإذا انتهى إلى أعلاها حدر إلى جهنم. وقال الكلبي: يكلف الوليد بن المغيرة أن يصعد جبلا في النار من صخرة ملساء، يجذب من أمامه بسلاسل، ويضرب من خلفه بمقامع حتى يبلغ أعلاها، ولا يبلغ في أربعين سنة. فإذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها، ثم يكلف أيضا صعودها، فذلك دأبه أبدا، وهو قوله تعالى: (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) .. والله أعلم.
.. يتبع بمشيئة الله.
---------------------------------------------------------------------------------------------
الثبات على الاستقامة

إبراهيم السيد العربي
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة فقال: انظر إليها قال: فرجع فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها .. فحُفت بالمكاره قال:ارجع فانظر إليها. قال فرجع فقال: وعزتك لقد خفت ألا يدخلها أحد. ثم قال: اذهب إلى النار فانظر إليها. فرجع فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها فحُفت بالشهوات قال:ارجع فانظر إليها فقال: وعزتك لقد خشيت ألا ينجو منها أحد).
أخي المسلم: إذا أردنا النصر من الله رب العالمين, ينبغي أن تكون النفوس طاهرة, ولن تكون النفوس طاهرة إلا بالاستقامة ولن تكون هناك استقامة وثبات على الاستقامة إلا بمجاهدة النفس. نقول للذين يريدون النجاة من النار والفوز بالجنة, عليهم أن يرجعوا إلى أنفسهم فيزكّوها وإلى قلوبهم فيحيوها أي ينظروا إلى أبدانهم فيشغلوها بطاعة الله, وإلى عقولهم فيخضعوها لعبودية الله رب العالمين, عندها ينال العزة في الدنيا والجوار .. أي جوار النبيين والصحابة, والصديقين ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ في جنات النعيم.وإن مما ينبغي للشباب أن يجاهدوا فيه, ويصرفوا عقولهم عنه هو: مصارعة الشهوة.
قال الله عز وجل عنها:(وليستعفف الذين لا يجدون نكاحًا حتى يغنيهم الله من فضله) ليستعفف: أي ليطلب العفة كل من كان غير قادر على الزواج, إما لقصور نفقة وإما لأي سبب آخر, والعفة كما هي مطلوبة من غير المتزوج فهي في حق المتزوج آكد لذلك كانت العقوبة أشد على المتزوج, يقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني, والنفس بالنفس, والتارك لدينه المفارق للجماعة).
والعفاف أخي المسلم: هذه الخصلة إذا كان الإنسان متمتعًا بها, فإنه إذا دخل حياة الزوجية فإنه يدخلها في سعادة , وتستمر حياته في كرامة وفي طمأنينة, أمّا من دنّس حياته بالرذيلة وارتكب الفواحش والموبقات, فإنه قد لا يدخل هذه الحياة أبدًا, وهذه نعمة قد حُرمها من دخلها, وقد تلوث بهذه الموبقات فإنه يدخلها وهو يعاني فيها ما يعاني.والله سبحانه وتعالى, قد ذكر لنا النفس والهوى,ومنبع الركون إلى شهوة الفرج الحرام إنما هو عن طريق الهوى, وعن طريق النفس التي قال الله عنها:(ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها ..)، ويقول ابن القيم ـ رحمه الله تعالى: النفس منها ما يدعوك إلى الطاعة, ومنها ما يدعوك إلى المعصية, والقلب بين ذلك, تارة يكون إلى هذا, وتارة يكون إلى ذلك, سيد الأعضاء ملك الأعضاء تارة يكون إلى النفس المطمئنة, وتارة يكون إلى النفس الأمارة بالسوء.والله عز وجل وصف نفس الإنسان الواحدة بثلاث صفات في القرآن الكريم:
وصفها بأنها نفس مطمئنة: وهذه النفس المطمئنة هي التي ينادى صاحبها عند الوفاة قال الله تعالى:(يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي) يناديها ملك الموت نداء تشريف وتكريم.
والأنفس الأخرى: هي النفس الأمارة بالسوء وهي ضد النفس المطمئنة, تلك أي المطمئنة سكنت واستقرت بذكر الله وطاعته, أما الأمّارة فهي التي تأمر صاحبها بمعصية الله وتأمره بترك الطاعات, والقرآن ما سمّاها آمرة وإنما سمّاها أمّارة فهي لا تكتفي بأمر أو أمرين في معصية الله بل هي مداومة على الأمر بالمعصية.نسأل الله السلامة والنجاة من النار.
والنفس الثالثة: هي النفس التي أقسم الله بها في سورة القيامة فقال تعالى:(لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة) وقد اختلف العلماء في تعريفها، فقيل: هي المترددة بين المعصية والطاعة, وقيل: هي التي تلوم صاحبها, وهذا هو الأرجح والله اعلم , وفي هذا يقول ابن عباس ـ رضي الله عنهما:(ما من نفس إلا وتلوم نفسها يوم القيامة؛ فإن كانت طائعة فإنها تلوم نفسها على قلة الطاعة, وإن كانت عاصية فإنها تلوم نفسها على المعصية.
ويقول الحسن البصري ـ رحمه الله تعالى:(ما يزال المؤمن بخير مادام له واعظ من قلبه)، المؤمن مازال بخير مادام هناك واعظ في قلبه يعظه إذا كان قد فعل طاعة استقصر هذه الطاعة وذكر التفريط فيها, وإن فعل معصية حدثته هذه النفس أنه قد أذنب فينبغي عليه أن يتوب إلى الله رب العالمين.
فنسأل الله العلي القدير أن يرزقنا العفة . ويتوب علينا إنه هو التواب الرحيم .. اللهم آمين.
--------------------------------------------------------------------------------------------------------
المسلم ونظرته للحياة

مها محمد البشير حسين نافع*
تختلف نظرة المسلم عن غيره للحياة، فإذا كان غيره يجعلها كلَّ شيء، وفيها يجدُ ملذاتِه، ويحقق ذاتَه، ويضرب بكلِّ قيمة عُرْضَ الحائط، ويعيش لبطنه وفرجه، ولا يعتد بآخرة ولا يؤمن بحساب، ولا يقيم وزنا لثواب أو عقاب، فإن المسلم يعتبر الدنيا قنطرةً إلى الآخرة، وجسرًا إلى جنات عرضُها السمواتُ والأرضُ، فترى حياته متوازنة، وسيْرَه في الدنيا متناغمًا مع مطلوب دينِه، وربِّه، ينظر إلى كل شئ فيعتبر، وتقع عينه على كل أمر فيفتكر، ويأخذ العظة والاعتبار، بالليل والنهار، وقد أخبرنا الله تعالى بذلك، وبأن الأسوياء من العباد هم الذين يرون قدرة الله في كل شيء، قال تعالى:(ِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة ـ 164)، ويقول ـ عز في سماه ـ :(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) (آل عمران 190 ـ 194)، ويقول الشاعر:
وفي كلِّ شيء له آيةٌ
تدل على أنه الواحدُ
فلنتجول في صفحات القرآن الكريم لنرى كم لفت أنظارنا إلى حُسْنِ النظر، ودقة الرؤية التي تعود بالولاء لله رب العالمين، والسجود والخضوع لعظمته، يقول الله تعالى:" فلينظر الإنسان مم خُلِقَ، خُلقَ من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب، إنه على رجعه لقادر" ، فيتفكر الإنسان في أصل نشأته، وأنه من ماء مهين ، دافق ، يخرج من صلب أبيه ، وترائب أمه، فالذي خلقه قادر على إعادته لمحاسبته، قادر على رصد حركته في كل حياته، مصداقا لقوله سبحانه: "له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله"،ولقوله:"بلى ورسلنا لديهم يكتبون"، فالمرء العاقل لا يترك هذا الأمر، وإنما يعيد التفكير فيه ليعود إلى فطرته، ويرتد إلى أصل الإيمان في طبيعته، ويُحْسِنُ عبادة ربه، ويفيق إلى إنسانيته التي لا تستغني لحظة عن ربها ، مهما أوتيت من قوة ومتع في الحياة الدنيا.
ويلفت القرآنُ الكريم النظرَ مرة أخرى إلى ما حول الإنسان من نعم، وآلاء وسموات وأراضي، وجبال وأنعام، وفجاج ممهدات سهلت له حركة الحياة، يقول الله تعالى:"أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت، وإلى السماء كيف رفعت، وإلى الجبال كيف نصبت، وإلى الأرض كيف سطحت، فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر".
إبل تختلف في هيئاتها وأحجامها، وأكلها وشربها، فهذه زرافة ذات رقبة كبيرة، وهذا جمل ذو رقبة متوسطة، وهذا خروف ذو رقبة صغيرة، وهذه بقرة ذات طبيعة خاصة مختلفة، كلها أنعام، وإبل مسخرة للإنسان، يركب ببعضها، ويستغل في الحرث والسقيا بعضها، ويُأكل بعضها، كم هي نعم تحتاج إلى وقفات هادئات؟!، وتأملات طويلات عميقات؛ لتعود بسجدات وتسبيحات، لرب الأرضين والسموات، ثم نظرة أخرى إلى السماء، وكيف رفعت ونراها أمامنا تقف بلا عمد، مَنْ أمسكها؟، وهي التي لو تُركت لنزلت على الأرض ، ولَمَا عاش أحد، ولَانْدَكَّ كل شئ في الأرض:" إن الله يمسك السموات أن تقع على الأرض إلا بإذنه"، ويقول ـ جل جلاله:" إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليماً غفورا"، ولذلك فإن من منازل الآخرة أن تفتَّح السموات فتكون أبوابا، وتسيَّر الجبال فتكون سرابا، كأنها صوف خفيف منفوش:"وفتحت السماء فكانت أبوابا وسيرت الجبال فكانت سربا"،ويقول ـ عز من قائل ـ:"ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا، فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجا ولا أمتا" ، نعم،:"وتكون الجبال كالعهن المنفوش".
إن الجبال التي نراها ثابتة، وتُضرَب رمزا للثبات والصمود، هي في شرع الله أوهن من الصوف الضعيف الذي يطير في الهواء، بل تكون كذرَّات التراب ، يمضي في مهبِّالريح والعواصف والأعاصير، نعم، "ينسفها ربي نسفا" فأنت لا تري لها أثرًا ولا وزنا، تفكُّرٌ وتدبُّرٌ، يعقبه صفاءُ قلب، ونقاءُ ذات ، ورقةُ فؤاد.
إن القرآن الكريم يلفت الإنسان إلى النظر إلى طعامه ، كيف يخرج من الأرض ليصل إلى فيه، بدل أن يأكل متعجلا دونما نظر؛ ليعلم أن وراء هذا الطعام عملياتٍ كبيرةً، ومراحلَ طويلةً حتى وصل الطعام مستساغا إلى شفتيه ، ولاكه وذاقه لسانه، يقول الله تعالى:"فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم"، فهي خطواتٌ تتلوها خطواتٌ، ومراحلُ تتبعها مراحلُ حتى تخرج النعمة ، ويحل الفضل، وينتشر الخير، في صورة حدائق ونعيم ، وفواكه وأعناب ، وحبوب وثمار، ألا يدفع ذلك النظر، وهذا التفكير إلى شكر العليم القدير، الوهاب المقتدر؟!، نعم، إن نظرة المسلم يجب أن تختلف عن نظرة غيره، ويلزم في رؤيته أن تتباين عن رُؤَى غيره، ونَظَرِ مَنْ سواه، حتى إنه عندما يقدِّم الطعامَ إلى فمه لا يتبادر بابتلاعه، ولقْمه، وإنما ينظر أولا إلى يَنْعِهِ ونُضْجِهِ ، ويحمد ربه على أن جعل فيه الفائدة والخير، يقول الله تعالى:"انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه" فالنظر والالتذاذ به يكون قبل الطعام، والتفكر والتلذذ بالعين والروح والفؤاد يكون قبل التذوق باللسان، فنتذوق بفؤاد ولسان العين قبل التذوق بلسان الأفواه، هكذا يلفت القرآن أنظار أتباعه إلى النظر الكلِّيِّ للكون كله:" قل سيروا في الأرض، وفيه: "قل انظروا ماذا في السموات والأرض"، ونقرأ :"له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى".
لابد من إعادة النظر، وإجالة البصر، في ملكوت القادر المقتدر، وأخذ العظات والعبَر، من كل ما في الكون من آلاء ونعم، وعطايا وهبات، فاللهم ارزقنا حسن الاعتبار، وكريم النظر، ودقة البصر، وواسع الشكر، وعميق الرؤى ؛ حتى نرى مظاهر قدرتك في كل شئ تقع عليه أبصارنا،فتشفُّ معه بصائرنا، اللهم واكتب لنا حسن التلقِّي عنك، وجميلَ الأخذ منك، واجعلنا من عبادك المتفكرين، والمتأملين في كونك الواسع الرحيب، واسلكنا في عداد من قلت فيهم: "إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار"، اللهم آمين ، آمين، وصلى الله وسلم ، وبارك على سيدنا محمد، وعلى أله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
* ماجستير في العلوم الشرعية
كلية دار العلوم بجامعة القاهرة ـ جمهورية مصر العربية