.. فَرَدُّ سيدِنا إبراهيم (عليه السلام) كان أفضلَ، وأعلى منزلةً، ومقامًا، وتقديرًا، وأدبًا من تسليم الملائكة، فاختار ـ كما علَّمه الله ـ الأفضلَ، والأعلى، والأكثرَ تحيةً، والأكبر ثوابًا، كما قال القرآن الكريم:(وإذا حُيِّيتُم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها)، كما أنه يدلُّ في الوقت نفسه على بلوغه قممَ الأدب، وتسنُّمه الأسلوبَ الحسنَ في التعامل؛ حيث رَدَّ عليهم بأفضلَ مما سلَّموا به هم كملائكة؛ وذلك إكرامًا لهم، واحتفاءً بهم، وتأدبَا معهم، وتعليا لنا كيف يكون خلق الاستقبال، وكرم الضيافة.
وفي التفسير الكبير للفخر الرازي وضع فيه الإمام ما جمع وأوعى في موضوع موقع الكلمة، وما بها من دلالات راقية، وفروق سامية، فقال: المسألة الثانية: لماذا اختلف إعراب السلامَيْنِ في القراءة المشهورة؟. نقول: نبيِّن أولًا وجوه النصب، والرفع، ثم نُبَيِّنُ وجوهَ الاختلاف في الإعراب، أما النصب فيحتمل وجوها :أحدها : أن يكون المراد من السلام هو التحية، وهو المشهور، ونصبه حينئذ على المصدر تقديره: نُسلِّم سلامًا، ثانيها: هو أن يكون السلام نوعًا من أنواع الكلام، وهو كلام سلَّم به المتكلم من أن يلغوَ، أو يأثم ، فكأنهم لمَّا دخلوا عليه فقالوا حسنا سلموا من الإثم، وحينئذ يكون مفعولا للقول؛ لأن مفعول القول هو الكلام، يقال قال فلان كلاما، ولا يكون هذا من باب ضربه سوطا؛ لأن المضروب هناك ليس هو السوط، وههنا القول هو الكلام فسره قوله تعالى:)وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا) (الفرقان ـ 63)، وقوله تعالى:(إلا قيلًا سلامًا سلامًا( (الواقعة ـ 26 (، ثالثها: أن يكون مفعولَ فعلٍ محذوفٍ، تقديره: نبلغك سلامًا، لا يقال على هذا: إن المراد لو كان ذلك لعلم كونَهم رسلَ اللهِ عند السلام فما كان يقول:(قوم منكرون)، ولا كان يقرِّب إليهم الطعام، ولما قال:(نكرهم وأوجس...)؛ لأنا نقول: جاز أن يقال: إنهم قالوا: نبلغك سلامًا، ولم يقولوا من اللهتعالى إلى أَنْ سألهم إبراهيم (عليه السلام) ممن تبلغون لي السلام؛ وذلك لأن الحكيم لا يأتي بالأمر العظيم إلا بالتدريج، فلما كانت هيبتهم عظيمة، فلو ضمُّوا إليه الأمر العظيم الذي هو من الله تعالىلانزعج إبراهيم (عليه السلام)، ثم إن إبراهيم (عليه السلام) اشتغل بإكرامهم عن سؤالهم، وأخَّر السؤال إلى حين الفراغ، فَنَكِرَهم بين السلام والسؤال عَمَّنْ منه السلام، هذا وجه النصب، وأما الرفع فنقول: يحتمل أن المراد منه السلام الذي هو التحية، وهو المشهور أيضًا، وحينئذ يكون مبتدأ، خبره محذوف، تقديره: سلامٌ عليكم، وكون المبتدأ نكرةً(سلامٌ) يحتمل في قول القائل:(سلامٌ عليكم، وويلٌ له) (أي: أن يكون دالا على الدعاء لك أو عليك، فيكون دلالته تلك هي المسوغ لكونه مبتدأ وهو منكر، والأصل في المبتدأ التعريف، لا التنكير إلا بمسوغ كما هو مقرر في علم النحو)، أو خبر مبتدأ محذوف، تقديره: قال جوابه سلام، ويحتمل أن يكون المراد قولًا يسلم به أو ينبئ عن السلامة فيكون خبر مبتدأ محذوف تقديره أمري سلام بمعنى مسالمة لا تعلق بيني وبينكم لأني لا أعرفكم، أو يكون المبتدأ قولكم ، وتقديره:(قولكم سلام)، ينبئ عن السلامة، وأنتم قوم منكرون، فما خطبكم؛ فإن الأمر أشكل عليَّ، وهذا ما يحتمل أن يقال في النصب، والرفع، وأما الفرق، فنقول أما على التفسير المشهور، وهو أن السلام في الموضعين بمعنى التحية، فنقول: الفرق بينهما من حيث اللفظ، ومن حيث المعنى؛ أما من حيث اللفظ فنقول:(سلامٌ عليك) إنما جوز واستحسن لكونه مبتدأ، وهو نكرة، من حيث إنه كالمتروك على أصله؛ لأن الأصل أن يكون منصوبًا على تقدير:(أُسلّم سلامًا)، و(عليك) يكون لبيان من أريد بالسلام، ولا يكون (لعليك) حظ من المعنى، غير ذلك البيان، فيكون كالخارج عن الكلام، والكلام التام:(أُسلّم سلامًا)، كما أنك تقول:(ضربت زيدًا على السطح) يكون (على السطح) خارجًا عن الفعل والفاعل والمفعول؛ لبيان مجرد الظرفية، فإذا كان الأمر كذلك، وكان السلام والأدعية كثيرَ الوقوع، قالوا نعدل عن الجملة الفعلية إلى الاسمية، ونجعل (لعليك) حظًّا في الكلام، فنقول:(سلامٌ عليك)، فتصير (عليك) لفائدة لا بد منها، وهي الخبرية، ويترك (السلام) نكرة، كما كان حالَ النصب، إذا علم هذا، فالنصب أصل، والرفع مأخوذ منه، والأصلُ مقدمٌ على المأخوذ منه، فقال:(قالوا سلامًا قال سلام)، قدَّم الأصل على المتفرع منه.


* د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية
[email protected]