لذا، لا يمكن تجاهل تحذيرات أنصار البيئة والمطالبين بمكافحة التغيرات المناخية بأن ما يشهده كوكب الأرض من تغير مناخي يهدد كل أشكال الحضارة على الكوكب.

تميزت دورات الحياة على كوكب الأرض بتزامنها في الأغلب مع تغيرات مناخية، من عصر الديناصورات التي انقرضت نتيجة ما يرجح أنها تغيرات مناخية هائلة لم يستطع ذلك النوع من الكائنات التعايش معها إلى تطور حياة البشر في مراحل مختلفة عبر آلاف السنين. وهناك شبه توافق على أن الحضارات الأولى للتجمعات البشرية قامت حول الأنهار أو مصادر المياه المستدامة. من حضارة قدماء المصريين حول النيل إلى حضارة بابل حول دجلة والفرات ثم الهلال الخصيب كله إلى حضارة اليمن وعُمان حول مصادر المياه من الأمطار والآبار إلى حضارة الأميركيين الأصليين حول نهر الأمازون. حتى الحضارة الصينية القديمة قامت حول الأنهار، وكذلك في شبه القارة الهندية. وليس ارتباط الحضارة بمصادر المياه لمجرد أنها مصدر حياة للبشر، سواء لحياة الجشم أو للزراعة وتربية الحيوانات؛ أي مصادر الغذاء. إنما المياه بشكل عام كانت وما زالت وستظل أساس الحياة. ليست فقط مياه الأنهار والأمطار والبحيرات وسيول ذوبان الجليد ـ أي المياه العذبة ـ وإنما أيضا مياه البحار التي مثلت مصدرا مُهمًّا للغذاء من الأسماك وللثروة من صيد اللؤلؤ وغيره.
بالطبع لا تبنى الحضارات بالماء وحده، فهناك أُمم عاشت بدون أنهار كبرى أو حتى الإطلال على شواطئ ممتدة، وطوَّرت حضارات بأسباب أخرى. لكن في النهاية تظل المياه عاملا أساسيا من عوامل الحضارة، وفي القلب من ذلك الأنهار. وينظر المرء الآن لحال سوريا والعراق، بعدما أقامت تركيا منذ سنوات طويلة عديد السدود على منابع النهر الذي يغذي البلدين، وكيف أصبحت مناطقة شاسعة قفارا بعدما كانت زراعات خضراء. صحيح أن الحرب في سوريا خلفت دمارا هائلا، لكن الدمار الذي يخلفه جفاف النهر أخطر. فالمباني والطرقات وغيرها يمكن إعادة بنائها، أما مياه النهر فلا تعويض لها. ومهما بلغت عائدات العراق من صادرات النفط، فليس من سبيل لتعويض غياب مياه دجلة وأيضا الفرات. وفي مصر والسودان يمكن تفهم القلق العميق من سدود إثيوبيا على النيل الأزرق الذي تأتي منه أغلب مياه نهر النيل. ففقدان البلدين، وخصوصا مصر، لكميات كبيرة من المياه تحتجزها إثيوبيا خلف سدودها سيجعل النيل على طريق الفرات بعد السدود التركية.
ومهما فعلت تلك الدول التي بنت مجتمعاتها حول النهر فلن تتمكن من اللحاق بركب التقدم الذي أحرزه آخرون بعيدا عن الأنهار. صحيح أن التقدم التكنولوجي وتطوُّر حياة البشر جعل عوامل بناء الحضارة تختلف، لكن ذلك لا يغني تلك المجتمعات التي ترسخت حول مصادر المياه عن مصدر وجودهم وتقدم حياتهم. فشركات التكنولوجيا يمكن أن تبني مصانعها في صحراء، لتستفيد من الرمال في استخراج السليكون كمكوِّن أساسي في صناعة الرقائق الإلكترونية. ويمكن أيضا لصناعات متطورة أخرى أن تكون بعيدة عن الأنهار، لكن تلك الصناعات ـ وإن كانت من سبل التقدم والإنجاز الحضاري ـ تحتاج إلى بشر يحتاجون بدورهم للغذاء؛ أي بالأساس الماء. بل إن أزمة الطاقة الحالية في أوروبا أظهرت فائدة أخرى للأنهار حتى لأكثر إنجازات البشر تقدما: المفاعلات النووية. فقد اضطرت فرنسا وألمانيا وغيرها إلى وقف محطات توليد الطاقة الكهربائية التي تعمل بالوقود النووي لانخفاض منسوب المياه في الأنهار التي تقع عليها تلك المحطات وارتفاع درجة حرارة الأنهار نتيجة موجة الحرارة في الأشهر الماضية. ذلك ببساطة لأن مياه الأنهار هي التي تستخدم في تبريد المفاعلات، ولا يمكن تشغيل المحطات بدون ما يكفي منها وفي درجة حرارة منخفضة وإلا زادت مخاطر الانفجار.
لذا، لا يمكن تجاهل تحذيرات أنصار البيئة والمطالبين بمكافحة التغيرات المناخية بأن ما يشهده كوكب الأرض من تغير مناخي يهدد كل أشكال الحضارة على الكوكب. فالاحتباس الحراري الناجم عن الانبعاثات الكربونية من نشاطات البشر الصناعية والتجارية وغيرها يؤدي إلى شح المياه، سواء من تبخر مياه الأنهار والجفاف بشكل عام أو من ذوبان الكتل الجليدية على الجبال وعدم تكون بديل لها يوفر مياه السيول. هذا فضلًا عن التغيرات في مواسم الأمطار بشكل عام.
ولن يكون مستغربا أن تصبح المياه، من الأنهار وغيرها، محور اهتمام البشرية مثلما كان النفط في العقود الماضية. ومع زيادة ندرتها وتدخلات البشر في الأنهار بما يضر بحياة بقية السكان على هذا النهر أو ذاك، قد تصبح المياه أساس صراعات تهدد أُممًا وحضارات. ولم يكن حديث البعض قبل سنوات قليلة عن “حروب المياه” في المستقبل من قبيل الترف الفكري أو التمارين النظرية.
من هنا أتصور أن يكون موضوع المياه، بكل مشاكل الأنهار والمصادر الأخرى لها بندا رئيسيا على مؤتمر المناخ العالمي، كوب 27، في شرم الشيخ بمصر في شهر نوفمبر القادم. وستشهد مناقشات المؤتمر بين أغلب دول العالم الأعضاء في مؤتمر الأطراف بشأن المناخ جدلا محتدما حول أهداف وقف التغير المناخي وعلاقتها بمشاكل المياه في المناطق المختلفة، وخصوصا المشكلات حول الأنهار. وذلك أمر صحي تماما، بشرط أن يؤدي النقاش والجدل إلى الاتفاق على جهود مشتركة تستهدف حماية الكوكب وبالتالي المصالح المشتركة للبشرية، وألا يسعى كل طرف للتهرب من المسؤولية وتحقيق مصالح قطرية على حساب المخاطر التي تهدد الحضارة البشرية ككل.


د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري
[email protected]