إن الإدارة الأميركية التقطت تلك التحوُّلات في العلاقات الصينية ـ الروسية، فصعَّدت من صراعها مع الصين بشأن الاقتصاد والتجارة والتمدد الصيني في الاستثمارات على امتداد العالم، وخصوصًا في منطقة الخليج، والقارة الإفريقية..
العلاقات الأميركية ـــ الصينية، فوق الصفيح الساخن. ليس من الآن بل منذ سنواتٍ طويلة. فالولايات المتحدة الأميركية لم يكن من رابط دبلوماسي بينها وبين جمهورية الصين الشعبية إلَّا بعد القمة الأميركية ـــ الصينية في بكين في شباط/فبراير 1972، بعد أن كانت القنوات الدبلوماسية تتحرك، وعبر “قنواتٍ خلفية” مع الصين الشعبية، وبالتحديد من قبل مبعوثين باكستانيين ورومانيين لفتح الطريق أمام بناء العلاقات الدبلوماسية بين بكين وواشنطن، والتي نجحت بترتيب زيارة وفد من الخارجية الأميركية بشخص مستشار الأمن القومي الأميركي الدبلوماسي الداهية هنري كيسنجر، والذي أصبح في حينها وزيرًا للخارجية. وقد أدَّت تلك التحركات نتائجها، فاعترفت الولايات المتحدة الأميركية بجمهورية الصين الشعبية، التي دخلت إلى العضوية الدائمة لمجلس الأمن الدولي، وذلك بعد أن كانت واشنطن تعترف بـ(تايوان) التي كانت تحمل مُسمَّى (الصين الوطنية) باعتبارها الصين الكلية، قبل أن يصبح اسمها (تايوان).
إذًا، الاعتراف الأميركي بجمهورية الصين الشعبية، تم في شباط/فبراير العام 1972 عندما عُقدَت في بكين القمة التي جمعت الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون، بالقائد الصيني (ماوتسي تونج)، ورئيس الوزارء (شو إن لاي)، والقائد الصيني (ليو تشاو تشي). وكانت تلك القمة الحدث الأهم في العام المذكور على المستوى العالمي سياسيًّا، وفي ظل ظروف استعار الحرب في فيتنام.
ومنذ اللحظة التي وصل فيها الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون إلى جمهورية الصين الشعبية، أدرك نيكسون ذاته “أن السياسة العالمية ستخضع لتحوُّل قد يستمر حتى القرن الحادي والعشرين وما بعده”. لكن الرئيس نيكسون كان قد قال قبل وصوله بكين في العام 1972 “إن أكبر حجر عثرة دبلوماسي مع الصين سيكون تايوان، وإن أكبر حجر عثرة سياسي محلِّي سيكون رد الفعل المحافظ داخل الولايات المتحدة لفتح العلاقات مع النظام الصيني الشيوعي”.
والآن، تسير تلك العلاقة الأميركية ـــ الصينية على “حد السكين”. ولكن لماذا؟ سؤال يطرح نفسه بإلحاح..؟
إن جواب التساؤل إياه، يأتي في ظل الصراع بين المكوِّنات الدولية الكبرى في العالم، التي تنحو بغالبيتها في السعي من أجل إقامة “نظام دولي جديد” بعد الاستفراد الأميركي لعقد ونصف تقريبًا مع انهيار وتفكك الاتحاد السوفييتي السابق ومنظومة حلف وارسو، فوجدت واشنطن نفسها في ظل “نظام القطبية الواحدة” بقيادتها. فضلًا عن الصراع الاقتصادي والتجاري والاستثمارات بين بكين وواشنطن، حيث تتربع الصين الشعبية في موقع الاقتصاد الثاني في العالم، والدولة الأكثر امتلاكًا لمخزون “العملات الصعبة”. إضافة للهلع الأميركي من التقارب والانسجام المتزايد بين بكين وموسكو بشأن الملفات الساخنة على امتداد العالم. فالصين الشعبية ستحمل معها حضارة صينية، مع صعود حضارات شرقية أخرى، بما فيها الحضارة الهندية، والحضارة الإسلامية.
لذلك، فإن التصعيد الأميركي مُستمر للصين الشعبية، كالتواجد الكثيف للسفن الحربية الأميركية في بحر الصين، وتبنِّي واشنطن الكامل لـ(تايوان) وتسليحها، وكان آخرها إعلان وزارة الخارجية الأميركية يوم الثاني من أيلول/سبتمبر 2022 عن صفقة أسلحة جديدة قيمتها 1,1 مليار دولار لتايوان، بعد شهر واحد على الزيارة الاستفزازية لرئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، إلى تايوان، وتشمل هذه الصفقة صواريخ من طراز (هاربون) مُضادَّة للسُّفُن الحربية وصواريخ قصيرة المدى من طراز (سايد ويندر)، لاعتراض صواريخ أو طائرات آلية، إضافة إلى عقد صيانة لنظام الرادارت، وتعزيز قدرات الإنذار المبكر ضد الصواريخ البالستية طويلة المدى. وأكد متحدث باسم الخارجية الأميركية أن هذه المبيعات “تخدم المصالح الاقتصادية ومصالح الأمن القومي للولايات المتحدة، من خلال دعم جهود تايوان لتحديث قواتها المسلَّحة”. وكل ذلك في وقتٍ تعد فيه بكين أن تايوان جزء لا يتجزأ من التراب الوطني الصيني، والتي يجب أن تعود وبمواطنيها للوطن الأم، حالها كحال (هونج كونج)، وجزر (ماكاو)...
إن واشنطن لعبت منذ البداية، وتحديدًا بعد الحرب الكورية عام 1953 وتقسيم شبه الجزيرة إياها إلى كوريا شمالية، وكوريا جنوبية، ضمن حل وسط (كومبرمايز) جرى بين واشنطن وموسكو وبكين وحتى طوكيو، منذ ذاك الوقت وواشنطن تلعب على وتر الخلافات والتباينات الصينية ـــ الروسية، التي برزت بعد أحداث شبه الجزيرة الكورية وفي أوج الحرب الباردة ـ التي اتسمت بسباق التسلح، والسباق التكنولوجي، والسباق الاقتصادي ـ تلك الخلافات والتباينات التي دامت لسنواتٍ طويلة، بالرغم من التكوين الأيديولوجي الواحد لنظام البلدين. ولم تنكسر اللعبة الأميركية إلَّا بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وشعور الصين الشعبية بخطورة الاستفراد الأميركي في تقرير مصائر المعمورة وأنظمتها وشعوبها. ومن حينها، أي بعد العام 1990 بدأت العلاقات الصينية ـ الروسية، تشق طريقًا جديدًا، وإيجابيًّا بين البلدين، والسير نحو بناء منظومة علاقات في إطار تحالف واحد، سدد ضربات موجعة للسياسات الأميركية في الحقل الأممي، وهو ما يتضح الآن وبشكلٍ جلي.
إن الإدارة الأميركية التقطت تلك التحوُّلات في العلاقات الصينية ـ الروسية، فصعَّدت من صراعها مع الصين بشأن الاقتصاد والتجارة والتمدد الصيني في الاستثمارات على امتداد العالم، وخصوصًا في منطقة الخليج، والقارة الإفريقية، إضافة للمواضيع السياسية، وسعي كل من بكين وموسكو لبناء “نظام عالمي جديد” يتصف بالتعددية.
وفي هذا المسار الأميركي، كانت إدارة الرّئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، قد فرضت ومنذ السادس من تموز/يوليو 2018، رُسُومًا جُمْرُكية إضافية على الواردات الأميركية من السِّلع الصينية، وأعلنت إدارة الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن، الاستمرار في فَرْضِ هذه الرُّسُوم “خدمةً لمصالح حوالي ثلاثمائة شركة أميركية، استفادت من عدم مُنافسة الإنتاج الصيني. وقد عبَّر الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن في كلمته في الدورة الــ77 للجمعية العامة للأمم المتدة (23/9/2022) عن هواجس إدارته، ونقدها، للدور الصيني والروسي... وصولًا لإيران على المستوى الأممي.
ونختم قولنا، بأن واشنطن تُدرك أن الصين الشعبية دولة كبرى مُقررة، بل ويُدرك بعض الساسة الأميركان أنها (أي الصين الشعبية) يُمكن أن تبرز على أنها أقوى دولة على وجه الأرض خلال السنوات الوسطى من القرن الحالي الحادي والعشرين.



علي بدوان
كاتب فلسطيني
عضو اتحاد الكتاب العرب
دمشق ـ اليرموك
[email protected]