لقد دفعت البشرية أثمانًا باهظةً من حقوقها الإنسانية؛ بسبب امتناع العديد من الجهات المتنفذة تيسير تداول المعلومات ومنع الانتفاع بها، وقد تم الانتباه إلى ذلك من وقت مبكر في التشخيص المتعلق بحاجات الدول النامية..

هناك رابط واضح بين الفساد والاحتكار والمعلومات المضَللة التي توظف عادة للتعتيم على كل شيء صحيح، إذ كلما انتشر هذا النوع من المعلومات أريد بها أن تكون عازلًا صارمًا عن الحقيقة بقصد سحب الأنظار بعيدًا عنها، وهكذا يحكم التشويش والتوهان سيطرتهما على الواقع. الحال أن تعدد وسائل الإعلان أتاح تعدد المسالك التي يمكن استخدامها في تشويه الحقائق، إن لم يكن طمسها في بعض الأحيان. ويبدو لي أن ذلك واحد من الأسباب الجوهرية التي دفعت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) إلى اعتماد يوم الثامن والعشرين من أيلول (سبتمبر) مناسبةً سنويةً للإتاحة والانتفاع العام بالمعلومات.
لقد أصبح هذا الموضوع على درجة من الأهمية مقابل تعدد أساليب (الضمائم) والاحتكار والتغييب المتعمد، واستخدام المعلومات في إطارات نفعية فحسب. نحن نتحدث عن منظومات متخصصة بهذا التوجُّه وعن سلسلة متواصلة من نصب الكمائن للخلط والاستثمار الأسود في ذلك. إن العالم يعيش الآن مظاهر غير مسبوقة من التستير والحجب والتضليل رغم كل ما يقال من توصيفٍ للعصر الحديث على أنه عصر التدفق الحر للمعلومات، وإتاحتها أمام الرأي العام.
نعم، هناك وفرة بالمعلومات المتاحة ولكن أية معلومات، فلو كانت الإتاحة على وفق المنهج الطليق لكان العالم غير ما هو عليه الآن، من تباين حادٍّ في فرص التنمية المستدامة وعدم اليقين وإقامة الكانتونات المعرفية مع تباين في الجودة والأهمية وكيفية تصنيعها والاحتفاظ بأسرار مكوِّناتها. باختصار، ما يحصل من وقائع الإتاحة هو ربيع زائف لا يمكن التعويل عليه في تكافؤ الفرص. إن المعلومات التي يتم حجبها بالتطبيق المتعسف لمفهوم حقوق الملكية الفكرية تمول الآن العديد من التوجُّهات التي ينبغي أن تكون ضامنة، وليس العكس. لقد هيمنت نزعات التحكم على أحدث التقنيات الزراعية والصناعية والخدمية، وباتت الإدامة في ذلك محركًا أساسيًّا للعديد من ظواهر الابتزاز التجاري، ولذلك نجد تباينًا في الإجراءات الوقائية والعلاجية اللازمة، خصوصًا عندما تترافق هذه الإجراءات مع إصرار على الاحتفاظ بالأصول، وتحوُّل المعلومة إلى سلعة تخضع لعروض البيع والشراء. باليد، ما زال العالم يعيش على إيقاع التعامل غير المنصف في مواجهة وباء كورونا، ولنا في إشارة لمنظمة الأمم المتحدة صدرت خلال الأسبوع الحالي ما يؤكد ذلك، فهي تفيد (أن العالم لم يتخلص بعد من تبعات وباء كورونا بسبب مظلومية البلدان النامية في عدم الحصول على كفايتها من اللقاحات). لا شيء يوفر للإتاحة الفرصة السانحة عالميًّا مع استمرار فرضية السلعة الجاهزة التي يبقى مفتاح مفرداتها بيد المصنع الاحتكاري. هناك الآن ما يعرف بمقابر الجرارات الزراعية في إفريقيا؛ لأن الدول التي تستخدمها لا تملك الأموال اللازمة لشراء قطع غيار لها، فهي تباع بأسعار لا تقدر على توفيرها، وبالمقابل لا تستطيع تصنيعها محليًّا. لقد دفعت البشرية أثمانًا باهظةً من حقوقها الإنسانية؛ بسبب امتناع العديد من الجهات المتنفذة تيسير تداول المعلومات ومنع الانتفاع بها، وقد تم الانتباه إلى ذلك من وقت مبكر في التشخيص المتعلق بحاجات الدول النامية، وتم التعتيم المتعمد على العديد من الظواهر المناخية التي كانت تنهش بالطبيعة الوضع الذي أدى إلى ما يعرف الآن بالإفلاس البيئي، ومثل ذلك أيضًا في الخدمات التعليمية والتركيبات الدوائية، والتقنيات الأكثر حداثة. ويحضرني هنا أن أشير إلى الظواهر السلبية التي جاء حصولها نتيجة عدم المعرفة باحتمالات حصولها على الرغم من امتلاك بعض الجهات لأسرار احتمال هذا الحصول؛ لأن المكاشفة بشأنها ترتب على البعض تراجعًا في أرباحهم. بخلاصة، ما كان (لليونسكو) أن تضع اعتبار الإتاحة والانتفاع ضمن أخلاقيات العمل الدولي إلا لشعور المنظمة بأن الكثير من الدول ما زالت تكابد في الحصول على المعرفة التفصيلية التي تتطلب انتشالها من الواقع المرير الذي تعاني منه. إن النزعات الربحية الخالصة التي تحكم العالم أوقفت الانفتاح الدولي العام على فرص تنموية كان ينبغي أن تتاح على هامش التحذير الذي نبهت إليه المنظمة الدولية منذ 1987، سنة صدور وثيقة، (مصيرنا المشترك)، الوضع الذي كرَّسَ إلى حدٍّ بعيد، التباين في وسائل التصدي للحالات الطارئة التي تضرب العالم بين الحين والآخر. لقد أفرد الخبراء جانبًا مهمًّا في تلك الوثيقة يؤكد مخاطر احتكار المعرفة والتغالب التجاري فيها، فهل تتنازل الدول ذات النفوذ الكبير لصالح ما تطالب به منظمة اليونسكو وتفرج عن المعلومات التي تخدم كل الإنسانية.
المؤسف، إن عدد سجون المعرفة يتعاظم.


عادل سعد
كاتب عراقي
[email protected]