إن تكتيك واشنطن الآن، يقوم على اتباع سياسات تشجيع الحروب وتوفير الدعم المالي للدوَل التي تخوضها في وجْه الأطراف الدولية المناهضة للقطبية الأحادية والساعية لنظامٍ دولي جديد متعدد الأقطاب.
سؤال مطروح وبإلحاح في هذه المرحلة التي يَمُرُّ بها العالم، فهل نحن بالفعل أمام عملية تحوُّل باتجاه القطبية المُتعددة؟ وهل الولايات المتحدة الأميركية تتراجع وتذوي قوتها وجبروتها، بعد تفردها واستفرادها في تقرير مصائر الملفات المعقَّدة في العالم، ومناطق التوتر، منذ العام 1990، عندما تفكك القطب المقابل والمنافس لها العام 1990 ـــ 1991؟ وهل ستبقى الولايات المتحدة، تفاخر بالقُوَّة العسكرية ومن حجم ونوعية التسلُّح، والقُدْرة على إحداث الدَّمار الشَّامل، والتي تُمكِّنها من الهيمنة على المؤسَّسات الدولية، وعلى العدد الواسع من دول العالم؟ وهل ستبقى قُوَّة الدولار، وتبقى معه هيمنته على المبادلات التجارية والتحويلات المالية الدولية..؟
حقيقة، وللإجابة على التساؤلات إياها، ثمة مؤشِّرات ومُعطيات، ربما توحي بتراجع قوة وسطوة الولايات المتحدة الأميركية، بشكْلٍ عام، مع أن الأمر لا يُمكن أن يكون بَيْنَ ليلة وضحاها، بل بشكْلٍ تراكمي، كما تقول الوقائع في التاريخ الحديث والمعاصر عندما اندثرت امبراطوريات، كما حال الامبراطورية التي لم تكن الشمس لتغيب عنها...!
نعم، إنها عملية تراكمية، ونستطيع تلمُّس أهمَّ مؤشِّراتها التي تبدو من خلال عزوف واشنطن عن خوض المعارك العسكرية بشكْلٍ مُباشر على الأرض في وجه خصومها ومنافسيها، كما كان الحال في الحرب التي دارت في شبه الجزيرة الكورية عام 1952 ـــ 1953. وحرب فيتنام من عام 1956 إلى العام 1975، وحتى نسف مقر قوات المارينز الأميركية في بيروت نهاية العام 1982، وصولًا للعراق. فهي الآن ـ أي واشنطن ـ وأمام الحدث الجديد والطازج والمتمثِّل بالحرب الروسية الأوكرانية، وضعت ثقلها دون تدخل عسكري مباشر على الأرض من خلال قوات بشرية، بل بتزويد أوكرانيا بالعتاد، ودعمها ماليًّا فقط، ودفع الدوَل الأوروبية لخوض تلك الحرب إلى جانب أوكرانيا، وتغطية المواقف الأوكرانية سياسيًّا في المجتمع الدوَلي والعمل على فرض عقوبات ومحاصرة روسيا. وهو ما يزكي ما ذهبنا إليه من تجنب الولايات المتحدة من زج جيشها أو أي وحدة عسكرية من قوات المارينز وخوض غمار حروبٍ عسكرية مباشرة على الأرض. وهي بذلك تمثِّل منهجًا يبدو أنه أخذ يشق طريقه في السياسة الخارجية الأميركية، بعد أن قادها سلوكها وسياساتها السابقة والنزول على الأرض في ميادين الحروب وبشكْلٍ مباشر لخسائر باهظة في الأرواح والعتاد والمال، وعندها كانت تتراجع الولايات المتحدة كلما ازدادت أعداد قتلى الجيش الأميركي، وهو ما كان يُسمَّى بـ”دبلوماسية النعوش الطائرة” في الحرب الفيتنامية، فكلما ازدادت نعوش الجنود الأميركان تراجعت واشنطن وهكذا... إلى حين جلس الطرفان في مفاوضات الطاولة المستديرة في باريس (وفد الولايات المتحدة برئاسة هنري كيسنجر)، والوفد الفيتنامي (برئاسة لي دك تو) وانسحاب القوات الأميركية، بل وهروبها من فيتنام بعد اقتحام ودخول القوات الفيتنامية بقيادة (الجنرال فونجوين جياب) مدينة سايجون العاصمة الجنوبية (أصبح اسمها هوشي منه)، بل وهروب السفير الأميركي بطائرة مروحية حطت في باحة السفارة الأميركية في سايجون.
وعليه، إن تكتيك واشنطن الآن، يقوم على اتباع سياسات تشجيع الحروب وتوفير الدعم المالي للدوَل التي تخوضها في وجْه الأطراف الدولية المناهضة للقطبية الأحادية والساعية لنظامٍ دولي جديد متعدد الأقطاب. وما يحدث في الحرب الأوكرانية الروسية ـ كما أسلفنا ـ يزكي ما نُشير إليه، حيث يُمكن القول بشأنه بأن واشنطن أرادت الدخول عبر تلك البوابة الأوكرانية، عبر الباحة الخلفية لخصمَيْها اللدوديْنِ ـ أي روسيا وجمهورية الصين الشعبية ـ. ولنا أيضًا أن ننظر إلى ما تقوم به الحكومة الأميركية علنًا بتهديد دولة (جزر سليمان)، الدوَلة الصغيرة والفقيرة والنائية، في حال عَقَدَت اتفاقات أمنية مع الصين، علمًا أن المسافة بَيْنَ الجزر والساحل الغربي الأميركي تقارب العشرة آلاف كيلومتر عبر المحيط.
إن مؤشِّرات التراجع لسطوة، وقوَّة، وهيمنة الولايات المتحدة التي تَعد نفسها “زعيمة العالم الحُرِّ”، وانفتاح طريق النظام الدولي المُتعدد الأقطاب، وإدخال دوَل كبرى جديدة للعضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي (الهند، البرازيل، مصر، جنوب إفريقيا)، نلحظه أيضًا من خلال قراءة مؤشِّر التنمية البشرية الذي صدر في تموز/يوليو 2022 يضعها في مرتبة أدنى بكثير في القائمة (أنظر: تقرير مؤشِّرات التنمية البشرية/الأُمم المتحدة تموز/يوليو 2022). وبالطبع إن تراجع تصنيف الولايات المتحدة بحسب مؤشِّر مكتب الأُمم المتحدة للتنمية المستدامة من المرتبة الـ32 إلى المرتبة الحادية والأربعين على مستوى العالم؛ بسبب عدم تحقيق الأهداف التي حدَّدتها الأُمم المتحدة سنة 2015، منها المحافظة على بيئة نظيفة وسليمة ومكافحة عدم المُساواة، فضلا عن انتشار الجرائم المُسَلّحة. ويُعلّل مكتب التنمية المستدامة للأمم المتحدة تراجع ترتيب الولايات المتحدة بمعاناة أغلبية المواطنين الأميركيين من التّفاوت الطّبقي، ومعاناة أحياء العُمَّال والفقراء والمُزارعين، ومن نقص المياه النَّقِيَّة الصالحة للشُّرْب، وتُبْرِزُ تقارير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية اتساع فجوة الدَّخل وتوزيع الثروة، وتراجع التعليم والرعاية الصِّحية. وكل هذا يقود في نهاية المطاف لضعف عام تدريجي ـ وليس دراماتيكيًّا سريعًا ـ وتراجع في الهيمنة الأميركية، وفي قوَّة الدولار. والسير باتجاه نظام أُممي متعدد الأقطاب.

علي بدوان
كاتب فلسطيني
عضو اتحاد الكتاب العرب
دمشق ـ اليرموك
[email protected]