لم تعد الثقافة الاستهلاكية ترفا في ظل الظروف الاقتصادية الحالية، ولم تعد مجرد معلومات جوفاء نرددها لبعضنا البعض على هيئة نصائح، بل أضحت ضرورة ملحَّة تستوجب منا التعرف على مختلف المهارات والمبادئ التي تقوم عليها، ذلك أنها في الأساس علم مستقل بذاته له تكنيكاته الخاصة في التعامل مع مختلف الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها من الظروف، بل ويرتبط بدراسة علوم أخرى ليس أقلها علم النفس البشري بمختلف مجالاته.
فأنت عزيزي المستهلك لا تعتقد أن شراءك لمنتج ما هو في الواقع ناتج من حاجتك الفعلية له، بل قد يرتبط بمحفزات أخرى يعمل عليها القائمون على هذه الصناعة الاستهلاكية، بل ويتفنون في اختراع الأساليب المبتكرة والمتجددة لتحفيزك على الشراء غير المبرر، من هنا كان واجبا عليك معرفة أسرار هذه الصناعة حتى تستطيع أن تدير أمورك المالية بكل احترافية وواقعية، وأن لا تقع في فخاخهم المنصوبة لك دائما.
ومن ضمن هذه الفخاخ الشائعة الآن أسلوب الندرة، فأنت عندما تذهب لشراء سيارة ما مثلا، دائما ما يقال لك إن السيارة غير متوافرة في الوقت الحالي، وإذا كنت تريدها فيمكن توفيرها بعد ستة أشهر على الأقل وعليك دفع عربون لذلك، وقد تكون السيارة موجودة ومتوافرة، ولكن هنا يتم اللعب على جانب نفسي في سيكولوجية الإنسان، وهو ولَعُه بالنادر من الأشياء، فكلما كانت السلعة غير متوافرة ويصعب الحصول عليها تجده أكثر إصرارا على الحصول عليها بصورة أكبر من لو كانت هذه السلعة متوافرة ومتاحة للجميع، وهذا أيضا يفسر ذهاب البعض لأماكن سياحية باهظة الثمن من حيث تذاكر الطيران وأماكن الإقامة، وغيرها من الخدمات رغم أنها قد تكون أقل جاذبية من مناطق أخرى أفضل منها، ولكن تكاليفها ميسرة للجميع، رغبة منه في التميز وأن يقال إنه يستطيع أن يذهب إلى أماكن لا يستطيع الغالبية الذهاب إليها، بل وصل الأمر بالبعض ـ الذين أسميتهم سياح البراندات أو الماركات ـ إذا ذهبوا إلى دولة يرتادها الجميع أن يتخفوا عن أنظار الناس خشية أن يراهم أحد، حيث إن مستوى هذه الدولة لا يتناسب مع (بريستيجهم) وإمكاناتهم المزعومة.
وأتذكر أيضا قبل فترة ليست بالبعيدة عندما يحدثني أحدهم عن معاناته مع ابنه الذي يرغب في شراء ساعة من علامة (ماركة) معينة، ولكن هذه العلامة تصر أن تقدم عددا محدودا من هذه الساعات، وكيف يتهافت الجميع للحصول عليها وتنفد حتى قبل طرحها، رغم قدرة الشركة على توفير العدد الكافي، ولكن الخطة التسويقية تتطلب أن تتم الأمور بهذه الطريقة حتى يظل الشغف واللهفة للحصول على هذه الساعة متقدا دائما، كما أسلفنا فيما يتعلق بموضوع السيارة، وغيرها من السلع المشابهة.
إن الحاجة لمعرفة هذه الجوانب عن طريق الحملات التوعوية والمحاضرات ذات العلاقة وبأساليب مشوقة هي الحل الناجع الذي لن يحل المشكلة ولكن سيخفف من حدتها، فتبصير المستهلك بأهمية الشراء الواعي الذي لا يقوم على الخداع والترويج للسلع بطرق تستغل الدوافع البشرية الطبيعية لمصالح تجارية تحاول من خلالها صنع ثروة مادية قائمة على هذا التلاعب هي مسؤولية الجهات ذات العلاقة أو المؤسسات والأفراد الفاعلين في المجتمع، وفي المقابل يجب أن يعي المستهلك دوره أيضا من خلال التعرف على هذه الأساليب وتجنبها، وما هذه القضايا المالية التي يقبع أصحابها في غياهب السجون إلا نتيجة في أحيان كثيرة للانجرار بدون وعي لمثل هذه الأساليب المخادعة.
ولست هنا في مقام المحرض لعدم الشراء، فهو المحرك الأساسي للاقتصاد وبدونه لا يمكن لأي اقتصاد أن يتطور، ولكن أتحدث هنا عن الشراء الواعي الناتج عن حاجة فعلية ورغبة غير ميسرة من قبل أطراف أخرى كل همها أن تبيع فقط، والمثل يقول (إذا اشتريت شيء لا تحتاجه فقد سرقت نفسك).


د. خصيب بن عبدالله القريني
[email protected]