استوقفتني ـ مِثل غيري ـ مضامين الخِطاب التاريخي الذي ألقاه يوم الجمعة (30/9/2022) الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بمناسبة توقيعه مرسومَ ضمِّ الأقاليم الأوكرانية الأربعة (لوجانسك ودونيتسك وخيرسون وزابوروجيا) إلى الاتِّحاد الرُّوسي، والذي جاء بمثابة محاكمة تاريخية للسلوكيات الشاذَّة والسياسات والأساليب الاستعمارية التي اتبعتها الحضارة الغربية، وعملت على فَرْضها على شعوب العالم كنوعٍ من الهيمنة والتبعية.
صحيح أنَّ الخِطاب جاء موجَّهًا بالدَّرجة الأولى إلى الشَّعب الرُّوسي ووضعه في صورة الواقع وما يحمله من تطوُّرات خطيرة تستهدفه وتستهدف أرضه ومستقبَله، والتوجُّه الغربي إلى تحويل روسيا الاتِّحادية إلى دولة نامية تابعة للغرب الاستعماري، ولإثارة الوعي ونوازع الغيرة على الوطن، واستنهاض الهِمَم لدى الشَّعب الرُّوسي، إلَّا أنَّ مضامين الخِطاب ـ في تقديري ـ تَمسُّ بصورةٍ مباشرة ما ترزح تحتَه اليوم الكثير من شعوب العالم من سياسات قبضة استعمارية وهيمنة غربية على المقدَّرات والثروات، بَلْ إنَّ هذه السياسات تجاوزت هذا الهدف لتَضرِبَ القِيَم والمبادئ والأخلاق والمُثُل العُليا، والثقافة والهُويَّة، وذلك لتكريس الهيمنة والاستفراد بثروات هذه الشعوب والدوَل. وفي سبيل تحقيق ذلك، أخذت تمارس أساليب واستراتيجيات تدمير خطيرة لهدم الكيان الإنساني من حيثُ الدِّين والمُعتَقد والهُويَّة والولاء والانتماء، والدعوة إلى الإلحاد والتشكيك في وحدانيةِ ومَلكوتِه، وهدْم أركان الأُسْرة والترويج للشُّذوذ، ومخالفة الفِطرة الإنسانية السَّليمة؛ وذلك بهدف إشغال النَّاس عن مقاصدهم وواجباتهم ومسؤولياتهم الدِّينية والحياتية والوطنية والمُجتمعية، بحيثُ يتحوَّلون إلى مجرَّد حيوانات لا همَّ لها سوى البحث عن ما يشبع غرائزها.
من الواضح أنَّ ما بعد خِطاب الرئيس بوتين ليس كما قَبْله، خصوصًا وأنَّه قام على ركيزتين: الأولى استعادة روسيا التاريخية، والثانية تكريس النظام العالمي الجديد ذي القطبية المتعدِّدة، وهذا يعني أنَّ أمَدَ المواجهة مفتوحٌ وقد أكَّد ذلك الرئيس بوتين بالقول إنَّ “القوة وحْدَها ستُقرر نهايتها، وإنَّ من الواضح أنَّ النَّموذجَ الاستعماري الجديد الراهن محكومٌ عليه بالفشل في نهاية المطاف، لكنِّي أُكرر أنَّ أصحابه الحقيقيين سوف يتشبَّثون به حتى النهاية، فليس لدَيْهم ببساطة ما يُمكنُ أنْ يُقدِّموه للعالم، باستثناء الحفاظ على نَفْسِ نظام السرقة والابتزاز”.
ومن المؤكَّد أنَّ انعكاسات مرسوم الضَّمِّ للأقاليم الأوكرانية الأربعة مع الجاهزية المتوالية لتحقيق ما وعَدَ به الرئيس بوتين سكَّان هذه الأقاليم، ستظهر مفاعيلها على الأرض، حيث سيَحْمَى وطيسُ الحرب بَيْنَ روسيا الاتِّحادية من جهة، وحِلف شمال الأطلسي “الناتو” من جهة أخرى؛ لأنَّ الولايات المُتَّحدة ستُقاتِل بآخر قطرة دم أوكراني وأوروبي، وآخر يورو أوروبي لتبقى جاثمةً على صدر العالم والمهيمنة الوحدى. والمؤسِف حقًّا، أنَّ الأوكرانيين والأوروبيين لا يريدون أنْ يَعُوا أنَّ هذه الحرب المفتعلة هي أنجلوـ ساكسونية بامتياز لإحداث القطيعة بَيْنَهم وبَيْنَ روسيا، ولإضعافهم اقتصاديًّا وعسكريًّا ليكونوا تحت العباءة الأميركية تابعين خانعين. وكما قال الرئيس بوتين: “.. فإنَّ عدوَّهم الرئيس هو الدوَل المستقلَّة، والقِيَم التقليدية والثقافات الأصلية، التي تحاول تقويض العمليات الدولية والتكاملية الخارجة عن سيطرتهم، والعملات العالمية الجديدة، ومراكز التطوُّر التكنولوجي، ليُصبحَ من الأهميَّة بمكان بالنسبة لهم أنْ تتخلَّى جميع الدوَل عن سيادتها للولايات المُتَّحدة الأميركية”.
إذًا، الأيام القادمة ستكون حبلَى بالمفاجآت، وستشهد سخونةً عالية رغم الشتاء القارص الذي يدقُّ أبواب أوروبا الباحثة عن نَفْسِها وقياداتها القويَّة من طراز تشيرشل وديجول وأنجيلا ميركل.


خميس بن حبيب التوبي
[email protected]