«.. ولعل الوضوح فرض علينا التأكيد على أن أوروبا لن تصمد في الشتاء القادم دون مصادر طاقة روسية، وهو ما يدركه الرئيس الروسي، ويعي أنها إحدى أهم الأوراق بيديه، لذا تحدث عن الأطراف التي تحاول وقف تصدير الغاز الروسي بالأعمال التخريبية..»
جاء إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن انضمام أربع مناطق كانت خاضعة لأوكرانيا بعد إجراء استفتاءات شعبية بها، ليؤكد أن روسيا لا تناور في أوكرانيا، وجاءت التصريحات الروسية بلهجة شديدة الصرامة، تؤكد أنها عازمة على تحقيق أهدافها بكافة الطرق والسبل الممكنة، ولوحت في سبيل تحقيق ذلك بكل ما تملكه من قوة، ما فسره الرئيس الأميركي في خطابه بالأمم المتحدة أنه تهديد نووي روسي، مشيرا إلى أن بلاده وحلفاءها الغربيين لن ترهبهم التصريحات البوتينية ـ على حد قوله ـ، وتوالت التصريحات الغربية التي لم تخرج عن سياق الحديث الأميركي، رغم تباينها بين مهولة ومقللة. فبعيدا عن الأسلوب الخطابي الذي اعتمده حلفاء واشنطن، إلا أنهم يسيرون في طريق واحد، هو الابتعاد عن الحرب، والعمل على توسيع نطاق العقوبات ضد روسيا، وضد كل من تسوّل له نفسه التغريد خارج السرب والتعاطي مع موسكو بعيدا عن تلك العقوبات التي يبدو أن أكثر المتأثرين بها حلفاء واشنطن أنفسهم. ولعل الوضوح فرض علينا التأكيد على أن أوروبا لن تصمد في الشتاء القادم دون مصادر طاقة روسية، وهو ما يدركه الرئيس الروسي، ويعي أنها إحدى أهم الأوراق بيديه، لذا تحدث عن الأطراف التي تحاول وقف تصدير الغاز الروسي بالأعمال التخريبية، مؤكدا أن بلاده مستمرة في الالتزام بتعاقداتها المبرمة، في محاولة منه لعرقلة خطوات واشنطن التي تسعى إلى ترسيم الحدود البحرية اللبنانية الإسرائيلية، ليكون غاز المتوسط بديلا للغاز الروسي، وهو يعرف جيدا أن المحاولات الأميركية تحتاج لسنوات حتى توفر البديل المزعوم، لتستمر سياسة عض الأصابع والرهان بالأوراق المتاحة، والتي يستطيع العالم تقبلها، لو أن الطرفين يؤمنان بها، فمساعي واشنطن لخنق موسكو بالعقوبات، واستجلاب بدائل، معتمدة على النَّفَس الطويل، يقابله خطوات روسية شديدة تعتمد على سياسة حافة الهاوية، بل قد تصل إلى ما هو أكبر لتتجه نحو الاعتماد على سياسة الأرض المحروقة. وهنا مكمن الخطورة، أن الطرفين لا يعتمدان منهجا واحدا، أو على الأقل سقفا واحدا، نستطيع من خلاله أن نحلل أدوات كل طرف لنعرف حجم الخسائر، فيقدم الجميع تنازلات تفضي لحلحلة الأمور في المستقبل القريب. لكننا للأسف أمام فريقين كل منهما يتحدث لغة مختلفة في سياق مختلف، لا يحمل فرصة للعودة، بل إنهما يتجهان لتمزيق العالم مجددا، عبر الدفع في الاتجاه المعاكس، فهناك خلل حقيقي في التعاطي الغربي مع الأزمة، فما بين التقليل والتهويل، والسعي لحصار اقتصادي طويل، لن نجد حلا يجعل من روسيا ترضخ، فحديث الرئيس الروسي يؤكد أنه دخل هذه الحرب في الأساس للذود عن حقوق دولته وفق رؤيته في أن تكون قوى عظمى، لها محيطها الإقليمي الذي يجب الدفاع عنه بشتى الطرق، بالإضافة لهدف آخر أعلنه أخيرا يتشارك فيه مع الصين التي التزمت الصمت، وهو إنهاء السيطرة الأميركية والهيمنة الغربية على مقدرات العالم. ووجدنا الحديث الروسي يتحدث عن الهوية والنمط الثقافي، بجانب الصراع الاقتصادي باستجلاب بدائل للأدوات الاقتصادية الأميركية، ممثلة في البريكس وشنغهاي، لتكون مؤسسات تطمئن الدول التي تهددها واشنطن بالحصار، ناهيك عن الحديث عن القوة العسكرية، لذا أراني متضامنا مع ما طرحته المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، والتي أكدت على حتمية التعامل بجدية مع تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشأن استخدام روسيا لجميع الوسائل المتاحة للدفاع عن نفسها، فميركل المخضرمة تدرك ضرورة اتخاذ كلمات بوتين على محمل الجد، وعدم صرف النظر عنها على أنها مجرد خدعة، والتعامل معها بجدية ليس بأي حال من الأحوال علامة على الضعف أو الاسترضاء، ولكن التعامل معها يعد علامة على الحكمة السياسية، التي تساعد على توفير مساحة لـ(المناورة)، فالمناورة هي الكلمة الحقيقية التي نريد الاستماع إليها بدلا من تلك الخطوات التصعيدية التي تضيق الخناق لتدفع روسيا نحو حرب عالمية ستكون نهاية لهذا العالم التعيس، ولنتذكر التاريخ وكيفية بداية الحروب العالمية الكبرى، لنجد أنفسنا أمام نفس الظاهرة، وهي التخلي عن الحكمة والسعي لتحقيق المصالح، خصوصًا وأن العالم يحبل بصراعات ملتهبة في كافة أقاليمه، والتي ستتفاعل مع حماقة هذا الصراع لتزيد الطين بلة، لنجد أنفسنا أمام ما لا يحمد عقباه، وفي النهاية سأستعين بمقولة رجل حكيم طالبني يوما بعدم الضغط الكبير في صراعاتي، واللجوء إلى حيلة تنهي أي صراع، هي وضع مخرج للمنافس وعدم حصاره الكلي، الذي سيدفعه بالتأكيد للحلول الأشد عنفا التي ستعصف بقدرات الجميع.


إبراهيم بدوي
[email protected]