مقدمة:
لم يكن يعلم التونسي البوعزيزي ان احتراق جسده سيؤدي الى كل تلك النتائج السلبية في بعض بلاد العرب .. لم يكن التعبير الذي سلكه معروفا في الوسط العربي ولا متداولا، ان يحرق انسان ما نفسه تعبيرا عن سخط أو تذمر من امر تقوم به الشرطة عادة وهي تتابع الفقراء كي ترسم لهم طريق التوبة عن كونهم فقراء.
ــــــــــ
[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/zohair.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]زهير ماجد [/author]منذ ان رمى عود الثقاب على جسده وراح في ميتة واعية كما يقول ألبير كامي، غرس بذرة تقاذفتها دول، تغير فيها وجوه واعتاب، رحل قادة لم يكن بالإمكان تغييرهم، كحسني مبارك ومعمر القذافي وزين العابدين بن علي، ثم لاحقا علي عبدالله صالح، وسط سريان الحريق في اقطار عربية اخرى ما زالت إلى اليوم تدفع الثمن وتحاول جاهدة ان تخرج من ازماتها.
لكن البوعزيزي لم يخطر في باله وهو يحرق جسده ان ارهابا كبيرا سيعم المنطقة والعالم، لن تفلت منه بلاد كانت حساباتها انها اقوى من كل الظنون، فإذا بها تصبح في مطلع الصفوف وقد لفها الحريق ايضا، واقصد سوريا على سبيل المثال.
اليوم عم الإرهاب، صار نجم المواسم كلها، صار لعنة الجغرافيا والتاريخ، بل صار تاريخا مؤكدا كلما تم النظر إلى الجغرافيا الجديدة التي ظهرت على السطح وتحولت إلى واقع. ضرب الارهاب ما لم يكن متوقعا ان يضرب، تنامى إلى الحد الذي صار ممددا كما قال الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله .. ولكي يقدم هذا الإرهاب نفسه، اقدم على طرق دموية، نفذها امام العالم الذي تعرف على ابشع صور لا تخطر على بال، من الذبح إلى الشنق إلى الصلب، إلى القتل بالجملة وبالمفرق .. فكان ان اوجد حالة رعب لا مثيل لها، واعتقد انها الحالة التي لم تحصل لا قبله وقد لا بعده.
هكذا استيقظ العالم على واقع كأنه السحر الذي عم الإرجاء، فهب الجميع مذعورين للمقاتلة، وتبين ان هذا الارهاب ليس مولودا بلا أب وأم، بل له اكثر من أب وام، ولأن معرفة الشيء توصل إلى النتيجة، فقد كان تصرف الولايات المتحدة ازاءه نوعا من التعبير المبسط الذي لا يغني ولا يثمر، وحين قادت اميركا العالم في تحالف مصنوع من ورق ضد هذا الإرهاب، فقد ظن كثيرون انها ذاهبة لإنهائه خلال ايام وساعات، لكنها وضعت سقفا لذلك حين اعرب مسؤوليها انها ستحتاج إلى سنوات، ومن يضمن الآن يتمدد اكثر ويصبح اكثر تجذرا خلال تلك السنوات .. وتبين من خمسة آلاف غارة على مواقع الارهابيين في العراق وسوريا، لم تؤد إلى النتائج المرجوة، بل لم تقتل سوى القليل من العشرات، بل ان المشاهدات العينية التي رافقت ذلك، اكدت انه في الوقت الذي كانت فيها الطائرات الغربية تغير على المواقع الارهابية كان هنالك طائرات بالمقابل ترمي الذخيرة والسلاح والمؤن لها، مما اكد اننا امام كذبة كبرى عنوانها ان من ولد هذا الارهاب لا يمكن ان يقتله، ولدينا معرفة بما يخطط الاميركي والاسرائيلي من اجل ادخال المنطقة في حالة فوضى، وبعدها يتم التركيز على المذهبية فالطائفية. وبعد البعد لا بد من اشغال دائم لمنطقة لا يجوز لها ان تستقر، هي كذلك منذ ان تم زرع الكيان الغاصب الصهيوني فيها، ومن يقرأ ادبيات الصهاينة الذين تفاعل معهم الاميركي وقدم لهم الخدمات التي فكروا بها، يعرف كم الاسرار التي نبتت، كما يمكنه ان يتخيل ولو على سبيل التخيل، ان اسرائيل كي تعيش لا بد من ان يموت ما حولها، او يضعف حتى حدوده الأقصى، اي ان يفقد قوته، من جيش ومن شعب موحد ومن اعتماد على الذات، وكان الحل الأساسي للصهاينة التخلص من ثلاثة جيوش لتتخلص بالتالي من الاخطار المحدقة، وهي مصر وسوريا والعراق. وحين تم فرط الجيش العراقي برزت اولى النتائج، وحين لم يسقط الجيش المصري حتى الآن استعيض عنه بتخريب الداخل ايذانا بأن يصبح هذا الجيش جزءا من خزان الاحداث المتوقعة له، في حين تم التركيز على سوريا بشكل اساسي، وهي الدولة العربية التي شكلت قلب العروبة النابض، وما زال تأثيرها العروبي كبيرا على المنطقة، ومن خلال جيشها العقائدي والمقدام، ظلت سوريا قلعة ومنارة عربية، فكان لا بد بالتالي من فرط جيشها وتغير الحالة الشعبية والاجتماعية والاقتصادية، ان تجعل غارقة بالديون وهي لم تستدن لا من الشرق ولا من الغرب ومن المصارف الكبرى ولا من البنك الدولي، بل عاشت كفاية عمرها من خلال قوت شعب ينتج لذاته ويؤمن كساءه بنفسه وله في تربته خير عميم احسن استعماله.
كان لا بد اذن من تخريب المجتمعات العربية وضرب مؤسساتها الكبرى واسقاط حكوماتها كما فعلوا في ليبيا على سبيل المثال وكما كانت الخطط لسوريا ايضا ولمصر وغيرها. وحين لم يتأمن المشروع ولم يتم التأكيد على انه سيحرز تقدما، تم اختراع ارهاب بمفاهيم اسلاموية كي يقال بأنه ابن المنطقة ومن افرازاتها .. وتم شحن هذا الارهاب باتجاهات مختلفة حيث تمكن بين بكرة وعشية من التمدد نحو اراض عراقية وصلت إلى حد ثلث الاراضي، وتم له ايضا ان يفوز في سوريا بالاستيلاء على محافظتي الرقة ودير الزور، لكنه لم يتوقف عند هذه الحالة بل ذهب بعيدا ليقدم نتفا منه في هذا المكان او ذاك، وليصبح جزءا من المنطقة يشار إليه ويتم الحديث عنه، وربما ثمة من يحاوره، بل انه اطلق على نفسه " دولة اسلامية " كي يغرس في عقول عربية واسلامية صورة جديدة للمنطقة، بل انه وزع خرائط " دولته " على العالم فإذا به مشروع سوف يضم العالم بأسره وليس بلاد المسلمين والعرب فقط.
وتبين ان وراء هذا المشروع قوى ممولة عربية وغير عربية، دول ومؤسسات وافراد، لهم حلمهم الخاص، يريدون من خلاله تغيير عالم كما هي الظنون، ليس خدمة للدين أو للقيم المساوية والانسانية، بل تحديا لشروط الانسنة التي ما زال بالإمكان الاعتراف بها.
اليوم وصلت الحالة الارهابية إلى ما هي عليه مناطقيا، لكن تأثيرها الفكري والمناخ الذي زرعته في صفوف كثيرين كان اكبر وأعم. ولهذا السبب، كان لا بد من مقاتلة هذا الارهاب على الارض، والذين انتظروا صابرين إلى اين سوف يصل كي يحركوا افكارهم وقدراتهم، بدأوا الهجوم المعاكس عليه.
فكل العيون اذن باتجاه العراق وما سيحدثه جيشها الذي يجري تدريبه بسرعة رغم ان رئيس وزراء العراق حيدر العبادي قدم فكرته حول جيشه الذي برأيه سيحتاج إلى ثلاث سنوات على الاقل كي يعود إلى حالته الطبيعية، لكن ذلك لا يعني ان يظل في حالة انتظار، حيث يمكن تعلم الحرب داخل الحرب وهذا ما يجب ان يحصل مع الجيش العراقي ومع الجيش السوري وغيره من الجيوش التي عليها عبء المرحلة ومستقبل بلادها.
/// الارهاب بكل معانيه
ذهب كثيرون الى تعريف الارهاب، ووضعوا له نظريات متعددة، ورأى فيه البعض انه ظاهرة طبيعية عاشتها المجتمعات منذ قديم الأزمان، وهي اذ تتكرر في كل مرحلة وزمن .. وتقوم على افكار تحدي المجتمع والدولة والنظام والخروج على القوانين وممارسة ما يحلو له وما يصدر عن افكاره التي ليست في النهاية سوى صدمة للمجتمع، وكل ما فيها نتاج مخيف له وللإنسانية جمعاء.
اما الارهاب المتلطي بالاسلام، فجدير بقراءة اصولياته، فهو يحاول ان يبني امام المجتمعات الاسلامية والعربية انتماء إلى الاسلام، وان يعمل من روحه ومن اصوله وانه جاء ليغير كل اشكال الانظمة التي قامت .. لكنه في حقيقة الأمر، جاء متخلفا إلى ابعد الحدود، غير آبه بأي حوار، بل يعتبر كل ما عداه خصما له يجب ابادته، ان مفهوم الابادة اساس فكره، فهو سلفا يطرح عدم الاعتراف بالآخر، ويؤسس له مكانة على حسابه من خلال اجتثاته بشكل نهائي. ويعتمد بالتالي من اجل تحقيق غاياته على البطش والارهاب وعلى تقديم صورة بربرية تخيف الآخرين والمجتمعات، اي ان يجعل الرعب الأقصى سائدا او هو السائد الذي هو غاية التعبير عنه كي يفهمه الآخرون على هذه الشاكلة .. وما افعاله في منطقة الموصل من تصفيات لاقليات وحتى اكثريات لاتتفق معه سوى تأصيل لهذه الصورة، بل ان ما يفعله في المناطق السورية خير دليل على ما يريده من تصور لمجتمع محدد، سواء في حياته الاجتماعية، او في التعليم والتربية، او في تداول الافكار، او في الطقوس اليومية للمواطن وغيره. وفي حين يرى البعض ان الارهابيين لايهتمون بالواقع السياسي، الا ان الواقع مغاير لذلك .. فهم ليسوا وحدهم، لديهم الكثير من المستشارين، ولديهم دول تطن في آذانهم، كما لديهم واقع سياسي يتحركون بناء عليه. وحين يتحركون عسكريا، فمن باب المعرفة وليس رمية في الهواء، حتى انهم عندما تمددوا عرفوا أين الوصول ووضعوا الخطط للحفاظ عليه، وعندما ارادوا احتلال مدينة عين العرب، فقد هاجموها من اوجع امكنتها، لكنهم لم يعدوا العدة على ما يبدو إلى التورط في معركة طويلة أجبروا في نهايتها من الانسحاب منها.
قلنا ان الارهاب ليس جديدا على الساحة، انه تعبير عن حالة الصراع الطبيعية بين الانسان وقوى الشر التي كانت دائما موجودة، ولحد علمي فإن العالم عقد مؤتمرات عديدة لمكافحة هذه الظاهرة خلال تاريخه، وما زلت اذكر مثلا ذلك المؤتمر الذي تداعت اليه اوروبا واميركا في مدينة البندقية الايطالية خلال سبعينات القرن الماضي حيث تم وضع اسس لمكافحة الارهاب ورده إلى نحره كما سمي آنذاك .. وما زلنا نذكر كيف عاشت مصر في شبه صراع مع هذا الارهاب المتلطي بالاسلام خلال عقد الثمانينات من القرن، وكيف عاشت الجزائر ايضا في صراعها معه والذي ادى الى اكثر من مائتي الف قتيل.
نشعر اذن ان الساحة عليمة بهذا النوع من الصراع الانساني .. وان لا جديد سوى الاسم، تغير اللاعبون وبقي المسرح كما يقول نزار قباني ، وفي الحقيقة ان ما نعيشه اليوم ليس الا امتداد لقديمه، لكن الذاكرة الشعبية تنسى دوما ان في التاريخ ما يشبه ما تراه في حاضرها، وان عالمها ماهو الا انعكاس للتاريخ ايضا.
يجب ان نعترف ان العوامل التي تؤدي الى الارهاب عديدة، لكنها في ظاهر ما نعيش تكاد او تتأسس على ما يلي:
ـ الكتاب المدرسي: وهو التأثير الاول في حياة المواطن والذي يعول عليه ان يكون البناء الاساسي الذي تتولد منه افكار المستقبل.
من المؤسف القول ان جيلا بكامله تحول الى مستجيب للافكار تلك اذا اعتبرنا ان الشاب في اي مكان في العالم وتحديدا في منطقتنا العربية اكثر عرضة للاغراءات التي فيها ادهاش للعقل البسيط الذي لم يخبر الحياة بعد ولم يسترشد بها، فتراه سريع الانسجام بكل ما هو خرافي احيانا، ويبدو ان الذين يمارسون عملية الاقناع هم النخبة لدى الارهابيين والمجربين حكما ..
اغلب الضحايا البريئة اذن هم من فئة الشباب، ولذلك يجب الحرب على الفكرة في موازاة الصراع معها على الارض .. ان عالمنا اليوم بات منخورا بالافكار الملعونة التي تتلاعب بعقول الناشئة .. فمن سمى مثلا المساحة الجغرافية التي استولى عليها " داعش " بالدولة الاسلامية كان يعني مايقول ويفعل، هنالك سحر لدى الجيل الشبابي وحتى للكبار من هذه التسمية التي تضرب على الوتر الحساس الذي يدفع الى النهوض الفوري. ولهذا السبب قلت في اكثر من مرة ان اول حرب على " داعش " يجب ان ينطلق من عدم القول بالدولة الاسلامية بحذفها تماما من القاموس المتداول، وهو ما يلفت النظر الى ان اكثر الدول الاوروبية تستعمل هذا الاسم وكذلك الاميركي، في حين تذهب بعض اجهزة الاعلام العربية الى عدم استعمال كلمة " داعش " والاستعاضة عنه بكلمة المتطرفين.
ولمحاربة الفكر الارهابي اولا مزيته الاساسية في شطب الفكرة المتداولة من رؤوس حامية .. ان العالم العربي اليوم بحاجة لأن يعيد السيطرة على مقوماته، وليس له الا ان يعيد النظر بكل ماقدمه لعنصر الشباب خلال تاريخه. فالانتباه الى مرحلة من هذا النوع يعني الاتباه الى مستقبل الافكار وما تعنيه لدى الجيل .. ويجب ان نعترف ان كل جيل هو شعب جديد، وان كل جيل جديد يريد ان يلغي القديم بكل الطرق، انه الصراع بين الاباء والابناء، وهو الصراع بين جيل قديم وآخر جديد، انه صراع الافكار حتى لوادعى القديم انه تجديدي فلن يتمكن من اقناع الجديد الذي يرى في نفسه موقعا مختلفا مع كل ما مر. تلك الفكرة سحابة تمر في سماء الاجيال عادة، لأن تراكم الخبرات والافكار والعمر المتقدم تغير من نظرة المرء .. نحن اذن امام صراع مكتوم دائما بين القديم والجديد، لن تتم مداواته بالطرق التقليدية سوى بقدرة التعبير عن مشروعية الشباب وهم في كنف القديم الحتمي الذي يماشيهم.
نريد اذن ان نحارب الافكار التي تؤثر، وبعضهم يرى في الفقر مشكلة، واكثر عالمنا العربي احتله الفقر منذ سنين وما زال يبحث لا عن الغنى بل عن لقمة عيش فقط، عن كسرة خبز، عن ملعقة تسحب من صحن ساخن طعاما يروي المعدة والدماغ. فهل ايضا لنا مشكلة مع طبيعة الاقتصاد وتوجهاته، وهل لنا ايضا قضية مع افرازاته التي تؤدي الى ذلك البون الشاسع بين فئات المجتمع وتلك الطبقات التي صارت حديثا .. ففي عهود مضت كانت الطبقة المتوسطة هي الاكثرية الساحقة، وهذا يعني سلاسة العيش وتوفر الحياة الهانئة، اما اليوم فنحن امام الغنى الفاحش الذي يقابله فقر مدقع، امام مجموعة قليلة من الناس تتحكم بأموال هائلة فيما السواد الاعظم بإعداده الغفيرة ينوء تحت جوع، واكبر مثال على ذلك الواقع المصري تحديدا.
لكل هذا لابد من الاشارة الى ان ما كتبه احدهم من ان سبب الازدياد المريع في الحركات الارهابية في الوطن العربي، احدثت حالة من الاضطراب ناجمة عن تداخلها واختلاطها وامتزاجها في حالة قصوى من السيولة لم نشهد لها مثيلا من قبل .. سببها اعلان الخلافة الاسلامية وربطها بالجهاد وتداعيات هذا الجهاد عن بيعة لاحد الخليفتين دون الآخر، ومن انقلاب على حركات سابقة وغير ذلك ما يتطلب جهدا جديدا في التعريفات وفي اظهار التباينات والاختلافات وتوضيح الامتزاجات والتداخلات بين هذه الجماعات وسواها من الحركات المعروفة المتلطية بالاسلام. يضيف ان دخول هذه الحركات والجماعات الارهابية حيز الفعل والتأثير على الساحة السياسية حتى باتت فعالية هذه الحركات حبرا يوميا في الجريدة والاعمدة السياسية وفي محطات التواصل الاجتماعي بالاضافة إلى وسائل الاعلام المرئي والمسموع. ولطالما شكلت حركات الاسلام السياسي اوراق ضغط على الحكومات العربية ووزنا كبيرا في صناديق الاقتراع لكنها لم ترق يوما الى ما ترتقي اليه الآن من قدرة على التأثير السلبي، حتى لقد مس هذا التأثير حدود الدول العربية، وجيوشها، وبناها ومؤسساتها ومقدراتها. وليس ادل على ذلك مما حققته مثل تلك الجماعات في العراق وسوريا على سبيل المثال لا الحصر، فقد نجحا في السيطرة على اربعين بالمائة من اراضي العراق وهدمت بعض الحدود التي تفصل بين العراق وسوريا بحسب سايكس بيكو جالبة مزيدا من الدمار المصحوب بالقتل والتهجير.
لقد نجحت هذه الحركات الارهابية في طمس فكرة العروبة بكل اسف، وهمشت قضية فلسطين المحتلة التي هي القضية الجوهرية الاولى في ضمير الأمة .. وكما قلنا، فإن الحركات الارهابية الجديدة نجحت في تغييب القضايا الاساسية في عقل الشباب وهي العروبة والوطنية وذلك بزعم أن تحرير فلسطين سيتم بجحافل من "عالمية الاسلام " المتثملة في شيشان واوزبك وتركستانيين وافغان وباكستانيين وماليزيين وابو سيافين فيليبينيين وبوكو حراميين نيجريين وقوقازيين وقادمين من جنوب روسيا ومن مناطق اخرى في جمهوريات اسيا الوسطى، بالاضافة الى جهاديي العالم من استراليا وبريطانيا واميركا وفرنسا وبلجيكا يضاف اليهم عدد من البقاع الاوروبية والافريقية والاسيوية بعد قضم الحدود والمساحات العربية وابطال مفاعيل دولها وجيوشها أي كل هؤلاء الذين يوغلون اليوم في الدم السوري والمصري والعراقي.
ان التمكين العالمي لهذه الحركات والجماعات من السيطرة على مواقع جديدة باستمرار، هو ما يحدث الآن على نحو مكثف ومركز لم يشهده من قبل على هذه الدرجة من التكثيف والتركيز تاريخ التدخل الاجنبي في المنطقة .. وفيما كانت الامة جمعاء تدفع ثمن التدخل الاجنبي في شؤونها ومقدراتها، نراها اليوم اقليات اثنية ودينية تستهدف كل منها على حدة لتدفع ما لا قبل لها به، ما يدفعها الى هجرة قسرية الى مستقبل مجهول هذا اذا سلمت من الذبح والسبي.
نأتي الأن لنسأل: هل يمكن القضاء على الارهاب نهائيا؟ من الحتمي القول انه يمكن، لكن الواقع والتجربة وخبرة التاريخ تؤكد انعدام القدرة النهائية على هذا الأمر .. ان المطلوب في هذه الحالة تضافر كل الجهود العالمية بشكل اساسي وملح ونظيف الافكار من اجل المواجهة .. فعالم الارهاب والحركات التكفيرية لم تعد تلتزم بمكان او امكنة، بل صار العالم كله مكانها، اليست احداث 11 سبتمبر دليلا على نوعية المعركة التي يخوضها الارهاب، ثم العمليات المكثفة التي حدثت في معظم اوروبا، اكدت ان الحركات الارهابية لم يعد لها وطن محدد بل صار العالم كله وطنها، وأملها ان ان تمكن من الوصول الى هذا الهدف. كما ان احداث باريس الاخيرة اكدت ان المواجهة العالمية الشاملة تشكل القاعدة المستقبلية التي يجب ان يبنى عليها .. واذا ما طرحنا السؤال عن الكيفية، فقد نتمكن من الكتابة في تفاصيله لكنه يحتاج الى اختمار طويل نعتقد اننا بأمس الحاجة اليه في هذه الظروف.
واذا كان متعثرا كما يبدو اليوم خوض صراع شامل من قبل اهل الارض ضد الارهاب والحركات التكفيرية، فما الذي يجب فعله لاعانة العالم العربي على الوقوف بوجه تلك الظاهرة القاتلة. نعتقد قبل شيء ان تطل علينا الولايات المتحدة بوجه مختلف تؤدي فيه دور الطليعة في التصدي للظاهرة بشكل جدي وحقيقي وليس بشكل استثماري كما يحدث الآن. وان تتمكن عبر تحالفها الذي لم نر انيابه الحقيقية من تخليص المنطقة العربية من هذا الخطر الذي يتمدد وستدفع ثمنه كل الدول بلا استثناء ومنها الولايات المتحدة التي احتلت أفغانستان والعراق لنقل المعركة ضد الارهاب من اجوائها الى الخارج وحتى لا يعود هذا الارهاب اليها من جديد.
اخيرا، نحن في طور الامنيات لا نزال ننتظر لغة الميدان التي وحدها من يستطيع تغيير الواقع العربي، وندرك اليوم من خلال المتغيرات الميدانية ان العمليات الجارية في اكثر من بقعة عربية ضد هذا الارهاب ومكوناته هي الملجأ الوحيد المعتمد الذي لاخيار غيره .. فلا حوار مع الارهاب بكل منظوماته، ولا كلام معه، ولا اقتراب منه الا بلغة السلاح والمعركة مستمرة حتى آخر ارهابي، مع اننا على يقين ان الارهاب الذي نقتله عند الباب سوف يدخل من الشباك .. تلك هي مفردة التاريخ وعبره.