يطرح واقع عمل الشركات ومؤسسات القطاع الخاص اليوم العديد من النقاشات في ظل موجة التسريح المستمرة للشباب العُماني الكفء، وكومة المبررات التي باتت تنتهجها الشركات في سبيل تبرير مواقفها حول إجراءات التسريح التي اتخذتها، وسيطرة الأيدي الوافدة على المهن والوظائف الأساسية والعليا في هذا القطاع، واقتصار وجود أغلب المواطنين على المهن الكتابية والإدارية التي تقع تحت تصرف المتنفذين في هذه الشركات، ومع أن أعداد الأيدي الوافدة في مجملها تشهد انخفاضا في السنوات الأخيرة، إلا أنها ما زالت تشكل رقما صعبا إذا ما تم مقارنة ذلك بحجم ما تشغله في سوق العمل بسلطنة عُمان، وقلة حضور الشباب العُماني في القطاع الخاص، حيث ما زالت النسبة لا تتعدى 13% من إجمالي المشتغلين في هذا القطاع في مقابل (87%) من العاملين الوافدين في القطاع الخاص، مع ملاحظة أن وجود الأيدي الوافدة في بعض الوظائف الهندسية والأساسية والعليا يصل بين (100% ـ 90%)، وهو ما يضع القطاع الخاص أمام مسؤولية أخلاقية ووطنية وإنسانية في إعادة ترتيب أوضاعه وتحسين صورته وترقية أدواته، وإصلاح برامجه، وتنشيط حركة تفاعل المواطن معه، وتوفير الممكنات والمحفزات التي قد تعيد ثقة المواطن فيه.
على أن إرهاصات الواقع، رغم الجهود المبذولة من قبل جهات الاختصاص في مراقبة وضبط مسألة الاختصاصات والتخصصات ودخول العُمانيين في هذا القطاع، إلا أن سوء الفهم وتدني متابعة تنفيذ القوانين في إلزام الشركات بتوظيف العُمانيين والمحافظة على أدائهم والإعلاء من مستوياتهم الوظيفية ومنحهم استحقاقات أكبر لمزيد من المنافسة والإنتاجية والحقوق والواجبات، والاعتماد على ما طرح من مبررات حول الحدِّ الأدنى من الأجور وطبيعة العقود المؤقتة للمواطنين وغيرها التي كانت بحاجة إلى إجراءات ثابتة ومنصات توعوية واضحة، وموجهات تقنينية تحفظ حق الشباب العُماني العامل في القطاع الخاص وتمنع أي تجاوزات أو ضغوطات تمارسها الشركات في ما يتعلق بالأجور والحوافز أو غيرها من الأمور التي تصنع الفارق في إنتاجية المواطن وتضمن مزيدا من القوة في الأداء، وبدورها اتخذت الشركات ومؤسسات القطاع الخاص صورة أخرى لفرض سياسة الأمر الواقع على المواطن (الموافقة على العمل بالأجر الذي تحدده الشركة ونوعية العمل الذي يتناسب معها ودون المطالبة بأي حوافز أو استحقاقات أو ترقيات) لتأخذ المسألة أبعادا أخرى تضع المواطن تحت تصرف القائمين على هذه الشركات من الوافدين، فإما أن يستمر على مضض دون أن يجد من التشجيع والدعم النفسي والمهني والتدريبي ما يستحقه، أو أن يتخذ قرارا سريعا بالاستقالة وعندها تضيع كل حقوقه إن لم يكمل الفترة المعتمدة، خصوصا في ظل ربطه والتحاقه بعقود مؤقتة وأنظمة تقييم ومتابعة غير متكافئة، يشكل المواطن الحلقة الأضعف فيها.
ومع المعاناة الظاهرية التي يواجهها الشباب العامل في القطاع الخاص والتي يجب أن تقف عليها الجهات المعنية (وزارة العمل، والاتحاد العام لعمال سلطنة عُمان، وغيرها من الجهات ذات الشأن)، واتخاذ إجراءات ضبطية تحدُّ من هذه الممارسات التعسفية والاستفزازية التي باتت تمارس ضد المواطن في الشركات ومؤسسات القطاع الخاص، لتتجه المسألة إلى معاناة أخرى صامتة أو خفية ـ إن صح التعبير ـ تبدأ مع إقصاء المواطن من الاستفادة من حقوقه التدريبية والتعليمية والمالية في ظل السياسات الأحادية التي باتت تفرضها هذه الشركات على المواطن، وبالتالي ما إذا كانت هذه التصرفات التي اتجهت إليها الشركات، نتاجا لفجوة الثقة في الكفاءة العُمانية، أم سعي الأيدي الوافدة المسؤولة بالشركات إلى فرض سلطة الأمر الواقع، في ظل شواهد كثيرة حول إقصاء المواطن من المشاركة في إدارة التطوير والتقييم بهذه الشركات، ومحاولة توجيهه لمسارات أخرى، وبمفاهيم ومسميات مختلفة، وكومة المنغصات والضغوطات وسيل الإشعارات التي يواجهها بإنهاء خدماته، والاجتهادية المفرطة التي تفتقر إلى الاستدامة والموضوعية، والتي يمكن إرجاع أسبابها إلى القصور في الثقافة القانونية للمواطن، أو القصور الحاصلة في برامج التوعية والتثقيف وأنظمة العمل، خصوصا ما يتعلق منها بحقوقه المالية والتدريبية، مع عدم وضوح مسار عمله، وتحسيسه بعدم الكفاءة والثقة في أداء مهامه أو توجيهه لأعمال أخرى، وقلة برامج التدريب لصقل الخبرات وبنائها، واتجاه اليد العاملة الوافدة بالشركات إلى الحصول على عائد العمل المستقطع خارج وقت الدوام الرسمي، واستغلال مسألة إجازات المواطن أو ظروفه، مبررا لهم لعدم رغبته في الاستمرارية في العمل بالشركة، أو سرعة تنقله من شركة إلى أخرى بحثا عن التوطين والحصول على مستوى وظيفي أعلى وراتب أفضل، لتضع المواطن شماعة في إخفاقاتها أو عدم قدرتها على تحقيق أهدافها، أو توسيع فرص حصولها على الامتيازات والدعم الحكومي الذي بدأ يتجه إلى التقليص في ظل جهود الحكومة نحو تعزيز الاستدامة الاقتصادية.
وعليه، تأتي الحاجة إلى بناء خريطة طريق يعمل عليها الجميع تنطلق من نقاط الاتفاق المشتركة بين القطاعات التنموية، وبشكل خاص بين المواطن والقطاع الخاص مع الحكومة وحاكمية مستهدفات رؤية عُمان 2040 في هذا الشأن، وعبر تعزيز الحوار الوطني بشأنها وتكوين بدائل وخيارات واقعية تحفظ حق المواطن للعمل في القطاع الخاص، وتحافظ على الكفاءة الإنتاجية لهذا القطاع، من خلال مراجعة قانون العمل وقانون الشركات وآليات العمل المحددة لعمل المواطن في شركات القطاع الخاص وحدود مسؤولياته وعلاقاته المهنية، وواجب إدارة الشركة في التعامل مع الخصوصيات وإدارة المشاعر، ودور الجمعيات المهنية والنقابات العمالية الوطنية في رصد الأداء المهني في الشركات وموقع المواطن منها، ووضوح دور الجهات المختصة ومستوى استيعابها لهذا الواقع وتمكينها من مراقبة التجاوزات في هذا الشأن، وتبني استراتيجيات تقييم مقننة تضمن قدرتها على تشخيص الحالة واقتراح البدائل، وإلزام الشركات بتنفيذ تعهداتها نحو المحافظة على إنتاجية القوى العاملة الوطنية في ظل مقوِّمات بناء الكفاءة وتعزيز مسارات الجودة في عمليات التدريب، والتمكين التخصصي للقدرات الوطنية، وتفعيل هيكلية المساءلة الإدارية الموجهة للشركات ونافذيتها، وآلية معالجتها للتحدِّيات التي باتت تؤثر سلبا في استدامة عمليات التوطين والتشغيل، بالإضافة إلى تبنِّي أدوات رقابية وأنظمة قياس أداء واضحة، تضمن حق المواطن القانوني والحقوقي في معرفة حقوقه وواجباته ومسؤولياته كاملة قبل البدء بأي مهمة له في الشركة، تشمل الامتيازات المالية والفنية أو الإدارية والمكافآت ووقت استحقاقها، وأنظمة الحضور والانصراف، والإجازات والمكافآت، وآلية تعزيز قدراته المهارية والتدريبية ونسبة حضورها في قاموس العمل والدورات والبرامج الداخلية والخارجية وحقه في الإفادة بمقترحاته ومرئياته ولقائه بالمسؤولين في مجال الاختصاص، وبالتالي ما يعنيه ذلك من مسؤولية الجهات الرقابية والضبطية والتنظيمية لملف التوظيف والتشغيل في القطاع الخاص من الوقوف على المسارات التي اتخذتها الشركات جراء القرارات الصادرة بشأن الأجور، والممارسات غير الصحية التي باتت تمارسها الشركات في هذا الشأن.
من هنا، نعتقد بأنه حان الوقت لإعادة هيكلة القطاع الخاص بسلطنة عُمان ورصد سقف النجاحات التي حققها، أو مواطن الفشل والاجترار التي يعيشها في ظل الدعم الحكومي والامتيازات المقدمة له، وبالتالي وضع الشركات في المراجعة النهائية لواقعها وتحسين ظروفها وإثبات بصمة حضور لها في الواقع وترتيب أوضاعها وضبط أولوياتها لتتناغم مع التوجهات الوطنية وحوكمة القطاع الخاص عبر إيجاد أو منح الصلاحيات الرقابية والضبطية الكاملة للمؤسسات المعنية بهذا القطاع، بما يعمل على ضمان توافر بيئة جاذبة بالشركات ومؤسسات القطاع الخاص، تحتضن الكفاءة الوطنية، وتعزز حضورها المستمر في كل عناصر الإنتاج وضبط عمليات التغيير العشوائية، ووجود تقسيم إداري بكل شركة يعمل مع المواطن ويأخذ بيده ويسعى لتعزيز التنافسية في الأداء ويقدم جرعات تثقيفية وتعريفية تضمن مساندة المواطن وتصحيح بعض الافكار السائدة لديه حول طريقة التعامل ومنهجيات الأداء، تأخذ بيده وتستمع إليه، وتعمل على تحقيق التواصل البناء معه بما يضمن القوة في آليات بناء الخبرة الوطنية وتبادلها والاستفادة من خبراء الشركة في تقديم برامج تطويرية نوعية تقدم للكادر العُماني، وتمكين فرص الابتكار والتنافسية في الأداء، وبناء مشروعات تحسينية ومبادرات معززة للعمل، وتبنِّي استراتيجيات عمل وطنية تهدف إلى تبصير الكفاءة العُمانية بكافة حقوقها وواجباتها ومسؤولياتها، وتعريفها بالجهات القانونية والإدارية والفنية المسؤولة عن إنصافه في حالة المساس بحقوقه الوظيفية، وإيجاد متحدثين رسميين عُمانيين في كل الشركات العاملة، وتفعيل وتمكين دور النقابات العمالية في نقل صورة الواقع للرأي العام أو وسائل الإعلام بما يؤصل قِيَم الولاء المهني ويعزز مساحات الثقة بين المواطن والشركة باعتباره مسؤولا عن نجاحها وتميزها، وبالتالي تبنِّي أدوات مقننة تستهدف تشخيص الحالة الوطنية وتستقرئ الواقع الإنتاجي والطموح في ظل الزيادة المطردة في أعداد الباحثين عن عمل المسجلين والنشطين في قوائم سجل وزارة العمل، وإسقاط ذلك كله على توجُّهات سوق العمل الوطني وقراءة ملامح التغيير فيه ومدى السرعة في هذا التغيير والعوامل الداعمة لذلك أو المقلقة التي يمكن أن تؤثر في سوق العمل.
أخيرا، يبقى الاهتمام بهذه المنطلقات مرهونا بجدية القطاع الخاص نحو تغيير قناعات المواطن نحوه وإثبات بصمة حضور تكسبه ثقة المواطن فيه، مع التأكيد على حوكمة هذا القطاع والرقابة على الالتزام بالأطر الإدارية والتنظيمية وجوانب الاتصال والتواصل بين مختلف الفاعلين والمؤثرين، في ظل وجود فريق وطني من وزارة العمل والاتحاد العام للعمال والنقابات العمالية والتأمينات الاجتماعية والمؤسسات الأمنية والرقابية والقضائية ذات الصلة، مع توفير إجراءات ثابتة آليات واضحة للمتابعة والرقابة على الشركات ومؤسسات القطاع الخاص في تنفيذها للقرارات المتخذة وفق إجراءات معلومة التنفيذ، يشمل ذلك المدخلات والمخرجات وبيئة العمل، واللوائح التنظيمية والتنفيذية والممارسات والقرارات الإدارية وإسناد مهمات العمل للعُمانيين.. فهل ستتجه الأمور إلى الجدية وحسم القضية، عبر إنتاج تشريعات رقابية وضبطية لها قوة التنفيذ في التعاطي مع تجاوزات الشركات؟ وما الضمانات التي تضعها الحكومة لكسب الرهان لصالح بناء الثقة في الشباب العُماني وإقناعه بالتوجُّه نحو القطاع الخاص في ظل تداعيات التسريح الاجتماعية والأمنية والاقتصادية والنفسية والأسرية؟

د.رجب بن علي العويسي
[email protected]