وقع التطور الدراماتيكي المنتظر في مسار الحرب الروسية الأوكرانية، فقد أجرت موسكو استفتاءً لسكان ومواطني المقاطعات الأربع: دونيتسك، ولوجانسك، وخيرسون، وزاباروجيا، والذين حسموا قرارهم، كما قالت نتائج الاستفتاء ووفق الإعلان الروسي بالانضمام إلى الاتحاد الروسي. فقد وضع الرئيس بوتين إعادة ما أسماه المناطق “الأوكرانية” الأربع للوطن الأُم روسيا، في سياق استعادة الحق التاريخي لروسيا، بقوله: “منذ كاترينا العظمى إلى قتال أجدادنا من أجل هذه المناطق في الحرب العالمية الثانية”.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وفي حفل مراسيم قبول المناطق الأربع الجديدة إلى روسيا، أعلن “أن أبناء دونيتسك ولوجانسك وخيرسون وزاباروجيا أصبحوا اليوم مواطني روسيا وللأبد”. مضيفًا أن “الأمر يعكس الإرادة الشعبية للملايين”، وأن روسيا “لا تسعى لاستحضار الماضي الذي شهد انهيار الاتحاد السوفياتي”. ومشيرًا إلى أن “أبناء هذه المناطق الأربع كانوا يتعرضون على مدار سنوات للقصف والتهديد على يد نظام كييف”. وبالقرار إياه ونتائج الإستفتاء، يفتتح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صفحة جديدة في صراعه مع الولايات المتحدة والغرب عمومًا، صفحة تبدو مفتوحة على السيناريوهات كافَّة، بما فيها الانزلاق إلى حروبٍ كبرى، طاحنة تحرق الأخضر واليابس في مناطق واسعة من القارة الأوروبية، في وقتٍ لا تريد به شعوب أوروبا على الإطلاق، أن ترى حروبًا فوق أراضيها بعد أن تلوَّعت بها لعقودٍ طويلة، وإدراكها القاطع بأن الولايات المتحدة تريد أوروبا مطية لها تحارب وتقاتل روسيا بالنيابة عنها، رغم حديث أقطاب الإدارات الأميركية المُتعاقبة عن أوروبا باعتبارها القارة “العجوز”.
القرار الروسي، وبعد نتائج الاستفتاء لمواطني المقاطعات الأربع ـ وبغضِّ النظر عن طعن البعض بشرعية الاستفتاء من عدمه ـ يُمكن لنا أن نلمس أبعاد القرار الروسي ونتائجه بشأن المقاطعات الأربع بقول السناتور الأميركي الجمهوري ليندسي جراهام “إن بوتين بقراره ضم مناطق أوكرانية، يعمل على تغيير خريطة أوروبا”. ليتبعه المُعلق السياسي الأميركي توماس فريدمان في عموده على صفحات “النيويورك تايمز” بقوله إن “الرئيس بوتين يقاتل وظهره إلى الجدار وأنه يجعل من روسيا، كوريا شمالية”.
إذًا، كان الخطاب الذي ألقاه الرئيس بوتين في القاعة الفسيحة للقديس جرجس بالكرملين، الخطاب الأهم منذ بدء الحرب مع أوكرانيا، فكان خطابًا مفعمًا بالنبرة المليئة بالغضب، والتحدِّي، في إشارته لما أسماه بـ”الغرب الشيطاني”، ولخَّص فيه رؤيته للصراع المصيري مع الغرب، محددًا موقع روسيا، تاريخيًّا وحاضرًا ومستقبلًا، في أوروبا والعالم، انطلاقًا من أن الحرب التي تخوضها روسيا اليوم في أوكرانيا. ومشيرًا في الوقت إلى أن روسيا لن تُفاوض على نتائج الاستفتاء في المناطق الأربع إياها بالرغم من رفض الأمم المتحدة وأمينها العام انطونيو جوتيريش للاستفتاء ونتائجه. وضغط واشنطن من أجل إصدار قرار من مجلس الأمن يدين الفعل الروسي ويطالب بانسحاب روسيا فتم رفض القرار باستخدام روسيا حق النقض، وامتناع أربع دول عن التصويت، من بينها البرازيل والصين الشعبية والجابون. وكان الأمر الأكثر إحباطًا بالنسبة للغرب هو امتناع الهند أيضًا عن التصويت.
حقيقة، إن الخطاب الذي ألقاه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، خلال مراسم توقيع انضمام أربع مناطق جديدة لروسيا الاتحادية، يُعد الخطاب الأهمَّ والأشمل منذ اندلاع المواجهة الدولية بين روسيا وأوكرانيا ومن خلفها الولايات المتحدة الأميركية، وبين حلف الناتو على الساحة الأوكرانية، لجهة توضيح خلفياتها التاريخية والجيوسياسية، وتحديد ما يُمكن لروسيا أن تقبل أو لا تقبل به في سياق أي حلولٍ سياسية يجري الحديث بشأنها بين كواليس الدبلوماسية الأممية.
إن نبرة التحدِّي، التي بدت في كلمة الرئيس بوتين، ومن خلال قراءة مفرداتها، وما بين سطورها، تُشير إلى أن روسيا مُستعدة لمزيد من العمل الدؤوب في مسعاها لتغيير النظام العالمي ــ القطبية الأحادية ــ الذي نشأ عقب انهيار الاتحاد السوفييتي السابق عام 1991، حين عدَّ الرئيس فلاديمير بوتين بكلمته أن الغرب “أنهى بازدواجية معاييره المُصممة للحمقى كافة الاتفاقات والمواثيق”.
وهنا نقول ـ وكما أشارت العديد من المطبوعات الأميركية ـ ومن مقالاتٍ سياسية كُتِبَت بأقلام محللين سياسيين أميركيين، فإن الرئيس الأميركي جو بايدن لم يسمع بدقة، قول الرئيس فلاديمير بوتين عن “أن القوة هي التي ستحدد مستقبل النظام السياسي في العالم” في إشارات قوية لإصرار موسكو لكسر القطبية الأحادية، وبناء نظام دول جديد مُتعدد الأقطاب، وتشاركها بالمسعى كل من الصين الشعبية، والهند وجنوب إفريقيا، والبرازيل، ومصر، وهي الدول المرشحة للعضوية الدائمة في مجلس الأمن... كما ويشاركها الرأي عدد واسع من غالبية دول العالم.
إن الوقائع على الأرض تشي بأن الحرب على الجبهة الروسية الأوكرانية، مفتوحة على احتمالات تصعيد أوسع بكثير مما شهدته في الأشهر الستة الماضية. ومما يزيد احتمالات التصعيد أكثر فأكثر، توقيع الرئيس الأوكراني مرسومًا عاجلًا يُطالب فيه بالانضمام السريع إلى حلف شمال الأطلسي. فقدأعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، تقديم بلاده طلبًا للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو) بموجب إجراءات مُعجّلة. وقال زيلينسكي في منشور على تليجرام “في الواقع، لقد شققنا طريقنا بالفعل إلى حلف الناتو. وأثبتنا توافقنا مع معايير الحلف”، وهو يدرك تمامًا أن معايير الحلف التي يقصدها تُصيب روسيا بالصميم وتهدد أمنها.
وبالمقابل كانت إشارة ضمنية قد صدرت مؤخرًا من قبل الرئيس بوتين وأثارت الاهتمام من جهة، والهلع من جهة ثانية، حين هَدَدَ الرئيس بوتين باحتمال اللجوء إلى السلاح النووي. الذي سبق وأن استخدمته الولايات المتحدة ضد اليابان في الأيام الأخيرة قبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية في التاسع من آب/أغسطس 1945 ولم يكن من داعٍ لاستخدامها أصلًا حيث كانت الحرب قد أرخت ذيولها بهزيمة دول المحور وسقوط برلين، ولكن واشنطن أرادت أن تُسجِّلَ إسهامًا منها في الحرب بعد أن كانت من الدول الأقل مشاركةً في الحرب ضد النازية، كما أرادت الانتقام من اليابان على تدمير الأسطول الأميركي في معارك ميناء (بول هاربر) حين دمرت طائرات الكاميكاز اليابانية الأسطول الأميركي وخسرت الولايات المتحدة الآلاف من جنودها. كما وسبق أن هددت الولايات المتحدة باستخدام السلاح النووي في الحرب الكورية عامي 1952 ـــ 1953 على لسان وزير الدفاع الأميركي في حينها (ماك أرثر).
فتهديد بوتين، باستخدام السلاح النووي، يعني على الأرجح استخدام “القذائف المزودة بمواد مُشعة” تُطلق عبر فوهات مدافع الهاوتز، وهي المسماة بـ”القنابل النووية التكتيكية” كما أعتقد. ومن هذا المنطلق وأيًّا تكن الحسابات التي تدفع واشنطن إلى العمل على تدمير روسيا، فإن الأخيرة لن تقف مكتوفة الأيدي.
وعليه، نحن الآن أمام فصلٍ جديد من مسارات الحرب الدائرة على الرقعة الأوروبية بين روسيا وأوكرانيا، وعلى الأوروبيين أن يُدركوا تمامًا بأن الولايات المتحدة الأميركية تستثمرهم في هذه الحرب، التي لا تخدم المصالح الأوروبية نهائيًّا.

علي بدوان
كاتب فلسطيني
عضو اتحاد الكتاب العرب
دمشق ـ اليرموك
[email protected]