لا ينبغي لتعابير كنا قد استعرناها من الثقافات الغربية، تعابير من نوع “الثقافة الشائعة” أو “الفنون الشائعة”، أن تخدم أداةً لتمرير الهابط والبذيء، كما حدث عمليًّا في العديد من دول الشرق الأوسط، والعربية منها خصوصًا. ومرد ذلك الخلل، كما أظن، هو ذلك التوازن المختل وغير المتجانس بين ألفاظ كـ”الثقافة” أو “الفنون”، من ناحية، وبين لفظ “الشائع” الذي ألحق بهما. والأخير غالبًا يفهم بأنه مرادف للمتدني، وأحيانًا، للبذيء، لبالغ الأسف.
إن عملية “ديمقرطة” الثقافة والفنون غالبًا ما تقع ضحية لهؤلاء الذين لا يفهمون “الديمقراطية” الحقة. لذا، تجدهم يمررون الغث والسمين من هذا الباب، أي باب “الديمقراطية” الواسع والمرن الذي يمكن التلاعب بأبعاده وحدوده توسيعًا وانكماشًا إلى ما لا نهاية.
والحقُّ، فإن أبرز مضامير التوظيف السلبي (أو الاعتباطي) لألفاظ من نوع “شائع” أو “شعبي” كان دائمًا ما يتجلى في الفنون المسرحية العربية التي بررت التدني والألفاظ الشارعية والبذاءة تحت لافتة “الواقعية”، وأحيانًا “الواقعية الاشتراكية” أو الاجتماعية. هذا كلُّه مخالف للمدرسة الواقعية الحقة التي اكتسبت صفتها هذه من معايشتها الواقع والتفاعل معه، ليس من أجل محاكاته أو ترسيخه، وإنما من أجل عكس سلبياته بمرآة تصبو إلى الارتفاع به نحو أعالي المثالية. وأقصد، في هذا السياق، المثالية الممكنة، أي المتاحة في تناول المجتمع الذي لا يرنو أفراده إلى الارتجاع إلى عصور التخلف والركود الحضاري.
وإذا ما حاول الواقعيون اليساريون (عبر العالم) التمسك بفكرة الارتفاع بالمجتمع وبالواقع نحو الأفضل من خلال تقديم “صور فوتوغرافية” للمجتمع والواقع على سبيل إدانتها وبلوغ رؤية لقبحها ولخطورتها، فإن الأغراض النهائية لهؤلاء الواقعيين لا يمكن أن ترتمي في غياهب الارتداد والرجوعية، بدائل عن النموذج المتعالي الذي يخدم المجتمع بحق.
ويمكن للمرء أن يلاحظ ذلك وهو يرتجع إلى أعمال مسرحية، من نوع “مدرسة المشاغبين” و”العيال كبرت”، وهي الأعمال الأكثر واقعية والتصاقًا بأدران الواقع الموفوض، أي الواقع الرديء، الواقع الذي قد يثير مكامن الضحك في المتفرج، نظرًا؛ لأنه يقدم لهذا المتفرج مرآة للتهكم وللتندر بنفسه من أجل ذاته، وليس لمعالجة هفوات الذات والتخلص من أدران عصر زائل، عصر لا ينبغي أن نعود إليه، بقدر ما يتوجب أن نطوي صفحته الآن وإلى الأبد!

أ.د. محمد الدعمي
كاتب وباحث أكاديمي عراقي