لعقود خلت ونحن نتابع مقاومة أهلنا في فلسطين لاحتلال استيطاني بغيض ونكتب ونعبِّر عن دعمهم وإعجابنا بإعجاز صمودهم، ولكنها المرة الأولى التي تنتصر فيها معاناة وانتصارات الأسرى الأبطال المكبلين بالأصفاد ليس فقط كمسار مقاومة لاحتلال استيطاني قلَّ نظير وحشيته في التاريخ، ولكن كمسيرة إنسانية أخلاقية راقية ظافرة فنتعرف على المقاومين الأسرى الأبطال كأبناء مرضيين يحلمون برائحة خبز أمهاتهم ونتعرف على الآباء والأبناء والأخوة والأخوات فنعلم علم اليقين أننا أمام نخبة من أبناء هذا الشعب العظيم، نخبة مؤمنة بالله وبوطنها الحبيب وحقِّها السليب ومصممة على ألا يموت هذا الحق في ضمائر الآخرين، وأنها نذرت نفسها وحياتها وشبابها لمحاولة استعادة هذا الحق، أو التذكير به على الأقل، وإبقاء شعلته مضاءة للأجيال القادمة.
في هذه الحلقات الست الرائعة التي قدمها الأستاذ غسان بن جدو مشكورًا على قناة الميادين عشنا مع مجموعة رائعة من الشباب الذين يمثلون أجمل ما هو جميل في حياتنا، وأفكارنا، وتطلعاتنا للحرية، وقيمنا العربية النبيلة، وتاريخنا؛ فشعرنا وبحرقة كبيرة ببعض ما تفتقده هذه الأمة العربية اليوم وبعض الأسباب المؤدية إلى الإحباط. علمنا ونحن نشاهد مسار حياة وعمل هؤلاء الأبطال كم تفتقر النخب السياسية الحاكمة في دول الأمة اليوم إلى هذه النخوة والشهامة والإيثار ووضع القضية أولًا وثانيًا وثالثًا فوق كل ما هو عزيز وحميم. وشعرنا أيضًا بحجم الجريمة التي يرتكبها العدو الصهيوني بحق هذه الأمة العربية الأصيلة برمَّتها؛ لأنه وعلى مدى السبعين عامًا الماضية يستهدف خيرة أبنائنا فيكيد بهم قتلًا وأسرًا وتهجيرًا كي يخرجهم من الإمساك بزمام العمل المقاوم والإيحاء بالقدوة للأجيال عبر تقديم الأنموذج الراقي للتمسك بالأهل والديار والتراب والتاريخ والقِيَم العربية بالحرية والاستقلال.
وشعرنا ونحن نسمع رواية هؤلاء الأبطال من السجناء الذين تمكنوا من الخروج من السجن عبر حفر نفق بصبر وأناة وهم يهيمون في الأرض لا يعرفون أين يطأون منها، ولكنهم مع ذلك كانوا يتمتعون بمنظر غروب الشمس لأول مرة منذ سنين وهم أحرار على أرضهم الحبيبة ونراهم يعانقون شجرة الصبَّار، ويتنشقون هواء جنين فيعلمون أنها جنين لأنها تلامس شغاف قلوبهم، ولكنهم ورغم الحيرة والصعوبة والضرورة لا يلجؤون إلى أحد خوفًا عليهم من وحشية جلاوزة الاحتلال الدموي البغيض، وخوفًا من أن يهدم الاحتلال منزلهم إذا لجأوا إليه. ونراقب بحرقة ودمعة أحدهم يشتهي أن يتذوق البوظة من رجل يأكلها لكن عفة نفسه تأبي عليه أن يطلب ذلك. وآخر يجد سعادته في رغيف خبز تنور حار لكنه ليس كخبز أمِّه. أية غيرية وأية عفة وأي انتماء هذا الذي نشاهده ونعيشه من هؤلاء الأبطال؟
من خلال الشوق والتوق الذي يعبِّرون عنه للأرض والأهل والزيتون والتين والصبَّار والخبز نتعرف على عمق معاناتهم في المعتقلات الصهيونية المظلمة دون أن يتناولوها بالمباشر ودون منةٍ لأحد ولا أذى لأحد، ولكننا نتعرف على أسوأ احتلال وإجرام عرفه التاريخ البشري الذي يمارسه كل يوم الإرهابيون الصهاينة بحق شباب معظمهم في العشرينات من عمرهم، أو حتى أصغر بعمر الأطفال لم يرتكبوا إثمًا ولا أذية، كل ذنبهم هو أنهم آمنوا بأرضهم وديارهم وحقهم في الحرية والاستقلال كغيرهم من الشعوب، وحقهم في تاريخهم ومستقبل أبنائهم وعشقوا هذه الأرض وهذا التاريخ وقرروا أن يهبوها عمرهم الجميل فداء لها كي لا يستقرَّ عليها مستعمر أجنبي بغيض ولا يهنأ بوطأتها مستوطن غريب محتل أثيم.
وأنا أشاهد الحلقات الست الفريدة بكلِّ تفاصيلها ودقة تعابيرها وجمال إخراجها وغنى المزج بين السياسي والشخصي والعائلي والمجتمعي أتساءل في نفسي: أوَليس من المعيب أن يعتقد أحد أن هذا الغرب الذي يدَّعي الديمقراطية، وليس به من الديمقراطية من شيء، أن يعتقد أنه يعير أي اهتمام لأبسط حقوق الإنسان: حق الفلسطيني في العيش الحر الكريم على أرضه؟ أوَليست وصمة في جبين كل الناطقين بالضَّاد وكل المؤمنين بالله وبقدسية حياة خليفة الله على هذه الأرض أن يوَلُّوا أدبارهم عن أنبل قضية وأقدس إيمان بها ودفاع عنها ويطبعوا مع عدو غادر؟ كيف يهنأون بشبابهم الذين يشاطرون هؤلاء الأبطال تواريخ ميلادهم في منتصف التسعينيات ولا تتحرك ضمائرهم لضمان إطلاق سراح هؤلاء الأبطال من سجون الظلم الصهيوني وظلمة الاحتلال الأجنبي؟ أي عدالة يتشدق بها الغربيون وهم يطبلون لعملاء لهم في أمصار متعددة يتخذون منهم دعاية إعلامية عن الحرص على حرية وحقوق الإنسان، بينما يشهد تاريخهم أنهم لا يعيرون وزنًا إلا لما يخدم أجنداتهم السياسية وأهداف الهيمنة ونهب ثروات الآخرين.
تذكرت الشهيد محمد الدرة (2000) والشهيد خالد غنام (2005) ورفاقهما الذين كانوا يلعبون بالكرة فاغتالتهم يد الاحتلال، وكتبت والدة الشهيد خالد غنام رسالة إلى الرئيس بوش وهو يستقبل شارون في تكساس وقالت له: “لا ذنب لخالد ورفاقه سوى أنهم ولدوا فلسطينيين على أرض فلسطين فاغتال الاحتلال طفولتهم، وها أنت تحتفي بالقاتل وتهديه علبة شوكولا ملغومة بعلم القاتل مع أن ضيفك سلب طفلي حياته وسلبني هنأ العيش وسلب الفلسطينيين حريتهم وحقوقهم وأنا أسمعك تدعو إلى الحرية والديمقراطية، فلماذا لا تدعو إلى حرية وحق الفلسطينيين في الحرية والعيش الحرِّ الكريم؟” وتتكرر الازدواجية مرَّة ومرَّتين وألف مرَّة على طول حقب هذا الاحتلال البغيض للأرض الفلسطينية والحرية والكرامة والحقوق الفلسطينية.
يجب ألا يمرَّ هذا الوثائقي مرور الكرام على أذهاننا وضمائرنا ومشاعرنا ومواقفنا من أقدس قضية إنسانية تشهدها البشرية اليوم، بل يجب أن يكون الأسلوب الذي تمَّت من خلاله معالجة هذا الحدث الاستثنائي أسلوبًا معتمدًا في كل مقارباتنا لتضحيات الأسرى والمقاومين، وأن نقارب تضحياتهم ونضالهم وفداءهم من المنظور الإنساني، وأن نعمل على نشر قصص كفاحهم من أجل الحرية من نظام الأبارتيد الصهيوني بكل الوسائل الممكنة وبكلِّ اللغات؛ فالصراع اليوم مع هذا العدو ليس صراعًا سياسيًّا أو عسكريًّا فقط ولكنه صراح ثقافي وإعلامي وأخلاقي وحضاري أيضًا.
علينا نحن المعنيون أن نكون أعينهم وألسنتهم لهؤلاء الأسرى والمقاومين الأبطال، وأن نؤسس مرجعية خاصة بنا، وأن ننسف عرض الحائط كل المرجعيات الغربية المنافقة والكاذبة، وألا نتوقع ممَّن أبادوا شعوبًا أصلية ذات ثقافات عريقة بكاملها في أربع قارات وممَّن أشعلوا عشرات الحروب في كل أنحاء المعمورة، وممَّن قتلوا عشرات الملايين بحروبهم وحصارهم وعقوباتهم المجرمة، وممَّن مارسوا الظلم والعنصرية حتى على مواطنيهم، ألا نتوقع منهم أن يؤيدوا حق الشعب الفلسطيني في الحياة والحرية والكرامة؛ لأنهم منحازون لمن يشبههم بالاستيطان والقتل والحروب والقمع والوحشية والظلم. بل علينا كما فعل الأستاذ غسان بن جدو مشكورًا في هذا العمل القيِّم أن ننطلق من أساسياتنا نحن ومعايير تقييمنا نحن، وسيرى حينها العالم التفوق الفكري والقِيَمي والأخلاقي للذي يدافع عن حقه وكرامته على من يغتصب الأرض ويقتل الطفولة ويقطع أشجار الزيتون ويحول الحلم إلى كابوس؛ لأنه معتدٍ متوحش أثيم لا علاقة له بالقِيَم الإنسانية السامية. علينا جميعًا نقل قضية هؤلاء النبلاء وكل المقاومين إلى العالمية؛ لأنها قضية إنسانية مشرِّفة لنا جميعًا ولكل من يؤمن بها ويحمل رايتها.

أ.د. بثينة شعبان
كاتبة سورية