ما زلتُ أذكرُ ذلك اليوم الذي استلمتُ فيه رسالة من وزارة التربية لِتُعْلمني بِنَيْلي لقب مُعلِّمة، يومها استقبلتْ أُمِّي هذا الخبر بالفرح وأطلقتِ العنان لصوتها بزغاريد فتجمهرتِ الجارات حولها ليعرفن ما هو الحدث السعيد الذي أعلنتْ عنه والدتي بزغاريدها، فزفَّتِ البشارة لهم بتعييني في المدرسة الثانوية بالحي، وانهالت عليها توصيات الأُمهات لأن تتوسط لديَّ لأعتني بأبنائهن وأرعاهم.
أما أخي الأكبر فقد وضع يده على كتفي معتزا بي قائلا: مبروك يا أستاذ، ونزع قلمه الفاخر من جيبه ليضعه في جيبي، وقال: سأشتري لك هدية قلما أحمر، فأنتِ مُعلِّمة فالقلم الأحمر ضروري لكِ، أما أنا فكان ذاك اليوم بالنسبة لي يوما عسيرا، كنتُ يومها أشعر بالانكسار والإحباط وخيبة الأمل، فحلمي منذ الطفولة أن أكونَ طبيبة كأخي الأكبر، نعم شعرتُ بالانكسار لأنني أصبحت معلِّمة، فمستوى وظيفتي أقل من مستوى وظائف إخوتي، فهذا الأخ طبيب، وذاك مسؤول في أحد المصارف وآخر مسؤول في شركة عقارية.
لُذتُ إلى مخدَّتي لأغمر وجهي فيها كعادتي عندما ينتابني همٌّ فأُناجيها وأفكرُ معها بصوت عالٍ، نعم أشعر بالانكسار فالوسط الوظيفي لإخوتي راقٍ، فهم يخالطون أطباء ورجال أعمال، أما أنا فأخالط طلبة صغارا ومُعلِّمين. وعندما يتناقشون في المجلس يطرحون قضايا اقتصادية وطبية أما أنا فعن ماذا سأتحدث؟!! عن ذاك الطالب الذي ضرب زميله أو ذاك الطالب الذي لم يفهم الدرس. نعم أشعرُ بالانكسار لأنني نلتُ لقب مُعلِّمة، فإخوتي أغنياء، أما أنا فسأكون متوسطة الدخل، شعرتُ حينها أنني علقتُ في عنق الزجاجة؛ فالمُعلِّم سيظلُّ مُعلِّما، وقِلَّة منهم من سينال الترقيات، شعرتُ أنَّني وصلت نهاية الطريق منذ خطواتي الأولى، كفكفت دموعي بثوب مخدَّتي وقررتُ أن أضعَ خطة أُنقذُ نفسي من مصيدة التدريس، فقررتُ أن أكملَ دراستي العليا: فأدرسُ الماجستير وبعدها الدكتوراه. فالدراسة ستعطيني الفرصة للحصول على وظيفة أفضل من التدريس.
دخلتُ المدرسة في يومي الأول فإذا بالصراخ وأجواء الفوضى تكتسح المدرسة، وصوتُ الجرس يقرع في أُذنَيَّ وفي قلبي كل بضع دقائق، حتى شعرتُ أنَّني اشتقتُ للهدوء، كانت علامات الإحباط والحزن والانكسار تسيطر على قسماتي، فقرأها مدير المدرسة والمعلِّمون وحتى الطلبة، ويا لفرحة الطلبة إذا اعتبروا تعابير الإحباط ضعفا، وبالنسبة لهم ضعف المعلِّم غنيمة يغتنمونها حيث يستمتعون بسلسلة من المشاغبات. لكنَّني سرعان ما استعدتُ قوَّتي وتماسكتُ لأُخفي مشاعري وأواجه قدري، أمضيتُ سنوات في عنق الزجاجة ريثما استطعت الحصول على فرصة للدراسة، فأجَّلتُ مشروع شراء السيارة، والزواج كي أنقذَ نفسي من هذه الشراك.
رباه حمدا لك كما ينبغي لجلال وجهك، فقد حققتُ هدفي وأصبحتُ (دكتورة) ونلتُ منصبا إداريا عاليا في مجال الموارد البشرية، وها أنا اليوم على كرسي التقاعد أتأمل حياتي، وقد خرجتُ بحقيقة أن الفترة الذهبية في حياتي المهنية هي فترة عملي في التدريس. فاليوم وبعد أن تقاعدتُ وتجرَّدت منِّي الألقاب المهنية والصلاحيات، وبدأ الناس ينظرون لي على أنَّني مجرَّد متقاعد وانفض الناس من حولي، هؤلاء الناس الذين كانوا يتمنون رضاي وأنا على مقعد المسؤولية، ولم يبقَ حولي من الناس سوى طلابي الذين درستهم في تلك المرحلة التي كنت أزدريها وألقبها (بعنق الزجاجة)، فإن زرتُ مستشفى يحتفي بي طلابي الذين أصبحوا أطباء أو ممرضين، وأحصل منهم على التبجيل والتقدير وأفضل الخدمات والمساعدة، بل إنهم يتواصلون معي من هواتفهم الخاصة ليطمئنوا على سير العلاج، وهم معتزين بي مقدرين عطائي لهم، وإن راجعتُ دائرة حكومية لأخلص معاملة ما، فطلابي يتهافتون لتقديم الخدمات ليعبروا عن امتنانهم ووفائهم، وإن سرتُ في الشارع بقصد الرياضة، فلا يخلو الأمر من طلابي الذين يقفون ويعرضون عليَّ التوصيل ظنا منهم أنَّني بحاجة لتوصيل، وإن دخلتُ مجلسا أفسحوا لي صدر المجلس تقديرا، وما زلت أحمل لقب أستاذ بنبرة التقدير، في حين خسرتُ لقب مدير بتقاعدي، ولم يعد أحدا بفتح لي الباب احتراما كما كان الحارس يفعل، لكن طلابي ما زلوا يقبلون رأسي ويدي. اليوم وأنا أتأمل أيام حياتي الماضية ندمتُ على ذاك اليوم الذي حزنتُ فيه؛ لأنني أصبحتُ مُعلِّمة، وتمنيتُ لو شاركتُ أُمِّي في زغاريدها واحتفالها فخرا بي؛ لأنني معلمة؛ لأنني أنا اليوم أفتخر بأنني كنتُ مُعلِّمة... ودُمتم أبناء قومي سالمين.

نجوى عبداللطيف جناحي
كاتبة وباحثة اجتماعية بحرينية
متخصصة في التطوع والوقف الخيري
[email protected]
Najwa.janahi@