في الوقت الذي تكتظ فيه مدارس التعليم الأساسي والتعليم العام بأعداد كبيرة من الطلبة، ترتفع في المقابل نمو معدلات الهجرة من المدارس الحكومية في ضوء الضغوط الكثيرة التي يتعرض لها المعلمون بسبب نقص الكادر التدريسي، وبلوغ حصة المعلم من الحصص الأسبوعية لتقارب 28 حصة في بعض المواد، بجانب ارتفاع أعداد المعلمين الوافدين، وغيرها من التحديات التي قد تعترض قطاع التعليم، ليتفاجأ الكثيرون بقرار وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار بضوابط جديدة تتعلق بطرح التخصصات التربوية بالدرجة الجامعية الأولى، ودبلوم التأهيل التربوي في الجامعة الخاصة والذي جاء في نصه «تقبل كل جامعة خاصة عدد 25 طالبا وطالبة سنويا كحد أدنى في كل تخصص تربوي مرخص لها بطرحه على مستوى الدرجة الجامعية الأولى ودبلوم التأهيل التربوي وذلك لضمان استدامة هذه التخصصات على أن يتم تحديد الحد الأقصى من قبل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار بالتنسيق مع وزارة التربية والتعليم».
ماذا يعني أن تقبل كل جامعة عدد 25 طالبا وطالبة سنويا كحد أدني في كل تخصص تربوي مرخصا لها بطرحه في ظل الحاجة الماسة لتأهيل آلاف من الطلبة والطالبات للعمل بقطاع التعليم ، خاصة في ضوء ما ذكرناه من صعوبات تستلزم إيجاد حلول لمعالجة حالة العجز في أعداد المعلمين والمعلمات العمانيات في مدارس سلطنة عمان، وسد فجوة النقص في الكادر التدريسي الذي بدأ يتسع بشكل كبير خاصة خلال السنوات الخمس الماضية مع عودة الوافدين لقطاع التدريس، ليشكلوا النسبة الأكبر ببعض التخصصات، رغم وجود فرص للإحلال في الجزء الأكبر من المواد وهذا موضوع آخر.
هذا القرار الذي ربما لم يكن متوقعا، فالإحصائيات المنشورة تشير إلى ارتفاع متوقع في أعداد الطلبة الجدد في المدارس الحكومية أو الخاصة أو بالنسبة لعدد المدارس الجديدة المتوقع تنفيذها خلال السنوات الخمس القادمة في ظل حاجة وزارة التربية والتعليم لأكثر من 300 مدرسة ، بحسب البيانات المتداولة. لتبقى مسألة استيعاب أعداد أكبر من الطلبة مرهونة بمدى توفر الكادر الوطني من المعلمين والمعلمات، وهو ما يدعو للوقوف على واقع قطاع التعليم والنظر في الكثير من الجوانب التي من شأنها تلبية متطلباته واحتياجاته وفي مقدمتها المعلم أساس العملية التعليمية وركيزتها.
قبل سنوات وضعت وزارة التعليم العالي في تلك الفترة قرارا وشروطا تتعلق بتحديد نسب القبول في التخصصات التربوية والتي كانت في حدود 80 بالمائة، وهو ما فتح المجال أمام الجامعات لاستيعاب الطلبة الراغبين في دراسة المجالات التربوية في الجامعات الحكومية والخاصة، كما أعطت الفرصة أمام الطلبة التي تقل نسبتهم عن 80 بالمائة في دراسة الدبلوم ومن ثم يكمن الانتقال لدراسة البكاريوس في حال حقق الطالب المعدل المطوب، كانت العملية تسير وفق أسس منظمة ومدروسة تراعي رغبة الطلبة واحتياجات سوق العمل، ومن جهة تتيح للمؤسسات الجامعية استيعاب أكبر عدد من الطلبة في المجالات التربوية أو بالنسبة للتأهيل التربوي، لكن وما مرور الوقت تم تقيد هذه التخصصات في أعداد ونسب محددة رغم حاجة سوق العمل إليها ، وهو ما حدث بالنسبة للقرار الأخير .
نتفق أن مسألة التنظيم فيما يتعلق بطرح التخصصات التربوية أو التأهيل التربوي أو أي مجال آخر يمثل جانبا مهما، لكن من المهم أيضا الوقوف على الكثير من الجزئيات والتفاصيل المتعلقة بدراسة القرار والنتائج المترتبة عليه على المدى المتوسط والبعيد، وأهمية إعطاء الفرصة لأبناء الوطن بدراسة التخصصات والمجالات التربوية التي يرغبون بها ويرون فيها مستقبلهم، وفتح المجال أمامهم لإكمال دراستهم الجامعية مع تفعيل الشروط المعمول بها في هذا الجانب ووفق آليات محددة ومدروسة، وبعدها يمكن النظر في آلية قبولهم كمعلمين، أو بحسب حاجة وزارة التربية والتعليم، المهم أن نوجد خيارات وبدائل من شأنها توفير فرص التعليم، وتلبية متطلبات قطاع التعليم من الكفاءات الوطنية المؤهلة والمدربة.
هناك اليوم آلاف الطلبة الذين ارتحلوا للدراسة خارج حدود الوطن في مجال التخصص التربوي أو التأهيل التربوي متحملين الكثير من الأعباء والالتزامات التي ربما تفوق قدراتهم المالية، لكنهم تحملوا الكثير من الصعوبات في سبيل تحقيق الغايات والأهداف التي ينشدونها، بعد أن تم رفض قبولهم للدراسة في جامعاتنا الوطنية حتى ولو كان ذلك على حسابهم الخاص ، وهذه من المفارقات الغريبة ، هناك الكثير من الطلبة الذين أصبحوا معلمين اليوم بحثوا عن الدراسة خارج حدود الوطن في فترة من الفترات بحجة أن التخصصات التربوية كانت متشعبة وفوق حاجة القطاع ، لكن بعد عودتهم تم تعيينهم بشكل مباشر لحاجة وزارة التربية والتعليم للمعلمين، وهو ما يعيدنا لنفس الدائرة اليوم في ضوء التمسك بعدم فتح المجال لدراسة التخصصات التربوية والتأهيل التربوي في مؤسساتنا التعليمية الجامعية التي تمتلك القدرة على استيعاب الطلبة المهتمين بالمجال التربوي ، كما أن الدولة والجامعات الخاصة استثمرت الكثير من الإمكانيات المادية والبشرية التي يمكن أن تخلق جيلا من الكفاءات الوطنية القادرة على العمل في أي قطاع أو مجال ، وبالتالي فمن المهم استثمار قدرات وامكانيات هذه الجامعات وتمكينها وتعظيم العائد الاقتصادي من هذه البرنامج الأكاديمية للجامعات بشكل عام والدولة بشكل خاص.
عندما نتحدث بلغة الأرقام وبحسب الإحصائيات المنشورة في 2022م، فقد بلغ عدد المعلمين أكثر من 57 ألف معلم ومعلمة ، فيما قارب عدد الطلبة 73 ألف طالب موزعين على 1242 مدرسة بين فترة صباحية ومسائية ، هذه الأرقام تدلل على حجم النمو المتوقع في أعداد المدارس والمعلمين في السنوات القادمة، خاصة بعد أن تحولت العديد من المدارس للتعليم المسائي والتي بلغ عددها 107 مدرسة منها 68 مدرسةً مشتركة ، ومن هنا تكمن أهمية أن تكون هناك مراجعة لهذا القرار والنظر في الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية المترتبة عليه، وغيرها من الجوانب التي يوجهها الطلبة الباحثين عن التعليم خارج حدود الوطن وهي كثيرة.


* مصطفى المعمري
كاتب عماني