تحدثت في مقال سابق عن أن ما يشهده العالم الآن من كوارث وأزمات وحروب، ما هو إلا نتيجة طبيعية للنظام العالمي، الذي سعى لإنشاء هيئات وجهات تسعى لتحقيق السلام بمسحة من التحضر، تشبه مساحيق التجميل، لكن في الجوهر لا تزال القوة هي التي تشكِّل الحق. لذا لن نجد معيارا ثابتا يستولد الحقوق، فنظام ما بعد الحرب العالمية الأولى كان منطقيا أن يفضي للحرب الثانية، نتيجة قسوة المنتصر على الدول المهزومة، التي سرعان ما سعت إلى تقوية شوكتها، لتطالب بحقوقها المسلوبة، وحتى بعد الحرب الثانية، والزعم أنها آخر الحروب العالمية، كانت لموازينها المختلة أثر في الحرب الباردة التي كانت لها آثار سلبية على الصعيد التنموي، وجعلت دول العالم تدخل في سباق تسلح، أخذ من مقدرات التنمية، نظرا لغياب العدالة المفتقدة، وطبعا واضح للجميع آثار انهيار الاتحاد السوفيتي الذي يتلخص الآن في الحرب الأوكرانية الروسية.
إن الحرب الجارية حاليا، والتي تقود العالم نحو حرب تدميرية، تجعل مصير العالم على المحك، أساسها القطب الأوحد، الذي زأر يوما محذرا السوفييت من الاقتراب من مناطق نفوذه وسطوته، معتمدا على عقيدة مونرو الراسخة، التي تتمسك بمحيط التأثير وجعلها تهدد بحرب عالمية عندما سعى السوفييت لنشر صواريخهم في كوبا، لتقدم أبلغ رد على المهاجمين للرئيس الروسي بوتين، الذي دخل الحرب للحفاظ على منطقة نفوذه المتآكلة، والتي وصلت حد انضمام أوكرانيا الجارة اللصيقة للناتو، العدو الرئيس لروسيا، والذي أُنشئ خصيصا لمواجهة النفوذ السوفييتي. وحتى لا يزايد البعض بشعارات حرية أوكرانيا بالانضمام، سواء للاتحاد الأوروبي أو حلف الناتو، دعونا نتحدث بعقلانية عن رفض واشنطن وجود أي نظام معادٍ في فنائها الخلفي، لدرجة أنها تساند انقلابات عسكرية وتساعدها في أميركا اللاتينية، بشكلٍ يضمن محيط النفوذ الأميركي في محيطها الجغرافي، ولعل الأزمة الكوبية نموذج نحاول من خلاله التأكيد على أن الشعارات المرفوعة ليس من الضرورة تطبيقها وتفضيلها عن المصلحة الشخصية.
فنحن في هذه الزاوية نسعى أن تكون هناك قواعد واحدة نطبقها على الجميع، إما أن نتمسك بالحريات والحقوق للأوطان والأفراد، أو نصطف وراء حق الدول في حماية مصالحها، دون استخدام شعارات براقة عن الحق والحرية.
باختصار، نحن لا نعطي لروسيا الحق ولا نحرم أوكرانيا من تحديد المصير، لكننا نؤكد أن جوهر الصراع مصالح، بين روسيا وأميركا، وبين الشرق والغرب، مصالح الناطقين بالروسية في أوكرانيا أمام مصالح المبهورين بنمط الحياة الغربي، ويريدون اللحاق بركابه من أبناء أوكرانيا، حرب مصالح باتت تشكِّل الوعي العام العالمي، وتفضح المزاعم التي يحملها كل طرف عن القِيَم الإنسانية والحق المطلق، وتضع الإنسانية أمام معضلة التطور والتحضر، التي تحدث عنها الفلاسفة والمفكرون في القرون الأخيرة، فالبعض يتحدث عن قفزة كبرى في رصيد التحضر البشري، بإيجاد منظومة حقوق تحمي الضعفاء في النظام العالمي الجديد، وآخرون يجدون ما يحدث تطورا علميا واجتماعيا واقتصاديا، لكن مبدأ القوة المطلقة هو ما يسطر الحقوق، مثلها مثل أي قوة عظمى امتلكت عالما في العصور الغابرة.
إن هذا السؤال، الذي حير الفلاسفة والمفكرين، وجد ضالته في عقل جمعي عربي من شباب تحركوا على منصَّات التواصل بشكلٍ عفوي، يظهرون للشعوب الغربية التي تنشر الأهوال التي يمرُّ بها الشعب الأوكراني، ازدواجية معاييرهم، لدرجة دفعت الكثير من الغرب بالاعتراف بأنهم شاهدوا أهوالا أكثر من تلك بكثير في العراق واليمن وسوريا وليبيا وفلسطين، دون أن يتأثروا، نتيجة الآلة الإعلامية المضللة التي تملكها دولهم، والبعض ذهب لأكثر من ذلك متحدثا أنه كان يدرك تلك الأهوال، لكن مصالح بلاده الاقتصادية التي ستنعكس عليه، كانت هي جوهر عدم الاهتمام.
الجميل أن ذلك الاعتراف من بعض المنصفين جاء بتأثير من شباب طالما نعتوا بالسطحية، لنجد أن تأثيرهم أعمق بكثير جدا، من الحكومات العربية، التي لا أبالغ في القول إنها أضحت على الهامش ليس لها تأثير الفاعل ولا حتى المفعول، فهم فقط يفرض عليهم تداعيات ذلك الصراع الذي لا ناقة لهم فيه ولا جمل، ليسبق الشباب خطوة تؤكد على مدى وعيهم وعمق تفكيرهم، وأنهم قوة جبارة إذا أحسن تنظيمها واستخدامها لبناء المستقبل.


إبراهيم بدوي
[email protected]