بعد أن أصبح واضحًا أن حقيقة الحرب في أوكرانيا هي في جوهرها حول مستقبل العالم والتوجُّهات القيمية التي سوف تحكم هذا المستقبل عزَّز الرئيس فلاديمير بوتين من خطواته ليس فقط لتغيير الديناميكية على الأرض في أوكرانيا، ولكن لإرساء أُسس جديدة لشكل العالم الجديد تترجم تصوراته وطموحاته لمستقبل لا يتمكن الغرب فيه من الهيمنة على قرارات الدول ذات السيادة أو إخضاع عملات هذه الدول لحكم الدولار أو فرض عقوباته غير الشرعية وغير القانونية على مقدرات الشعوب وحرمانها من الحياة الكريمة ومن حقوق الإنسان الأساسية. فبعد الاجتماعات التي عقدت لدول البريكس ومنظمة شنغهاي والقرارات المهمة والاستثنائية التي تمَّ اتخاذها في كلتا الحالتين، وبعد تطوير علاقاته مع الصين وإيران بشكلٍ غير مسبوق التقى الرئيس بوتين في الـ7 من الشهر الجاري في مدينة سانت بطرسبورج بشكل غير رسمي مع عدد من زعماء الدول الآسيوية تمهيدًا لحضور “قمة مؤتمر التفاعل وإجراءات بناء الثقة في آسيا (سيكا)”.
وكانت لغة بوتين في هذا اللقاء مختلفة نوعيًّا عن لغته سابقًا ومؤشرًا حقيقيًّا لتصديه لمهمة عالمية تتجاوز حدود روسيا وحتى آسيا في طموحاتها وأهدافها البعيدة؛ إذ رحب بوتين بالزعماء الآسيويين ((كأصدقاء قريبين جدًّا، وحلفاء نتشاطر وإياهم شراكة استراتيجية، وأننا جميعًا ملتزمون بالعمل بروح الجيرة والمنفعة المتبادلة والاحترام لمصالح كل منا)). مجرَّد عقد هذا اللقاء غير الرسمي قبل أيام من اللقاء الرسمي لهؤلاء القادة في كازاخستان يؤشِّر لآليَّات عمل تهدف أن تصيغ وحدة في الموقف واستثمارًا أنجع لهذا الموقف في المحفل الرسمي. وقال بوتين في الوقت الذي يعمل الخبراء على نصوص مهمة ستصدر عن الاجتماع فإن الهدف من هذا اللقاء واللقاء في أستانا هو “اكتشاف طرق لتوحيد جهودنا لجعل اقتصاداتنا أكثر مناعة من خلال توسيع التعاون الثنائي وضمان السيادة التكنولوجية وتعزيز السيادة لبلداننا وتطوير أسواقنا الداخلية وتعميق الاندماج الاقتصادي الإقليمي، كما دعا الرئيس بوتين وبشدَّة إلى ضرورة التعامل بالعملات المحلِّية ولخلق منظمة دولية في إطار سيكا لدعم ونشر اللغة الروسية”.
هذه هي المرة الأولى التي أسمع بها زعيمًا يتحدث عن” السيادة التقنية” و”السيادة المالية” وإن يكن مضمون هاتين العبارتين مطروقًا إلى حدٍّ ما، ولكن أن يتم استخدام صفة “السيادة” فهذا يدل على التطور الجديد في المفهوم والرؤى والتخطيط. وأن يتم عقد لقاء تشاوري غير رسمي قبل أسبوع من الاجتماع الرسمي فهذا أيضًا مؤشر واضح على الجدية في مقاربة التوصل إلى عقل جمعي يشكل ركيزة لاستقلال القرار في هذه الدول من كافَّة أوجهه، ويجعل من آسيا ركيزة لتشجيع ودعم الدول الأخرى لنفض غبار الهيمنة الغربية عن كاهلها والانضمام إلى عالم جديد يعمل بوتين مع الصين ودول أخرى على التبشير به ووضع منهجياته وأُسسه ورؤاه والعمل على تنفيذ هذه الرؤى على أرض الواقع سياسيًّا واقتصاديًّا وماليًّا وثقافيًّا ومجتمعيًّا.
تأتي أهمية هذا التحرك من إدراك الرئيس بوتين أن قوة الغرب تكمن في تحالفاته التي شكَّلها وعزَّزها على مدى عقود والتي تمكَّن من خلالها من الهيمنة على ثروات البشرية، وهنا يريد بوتين أن يستخدم هذه الآلية لأهداف مغايرة تمامًا: لأهداف تضمن السيادة السياسية والمالية والتقنية والعلاقات بين الدول على أساس الاحترام المتبادل والمنفعة المتبادلة.
وفي الصين تعبِّر اجتماعات ومؤتمرات الحزب الشيوعي الصيني عن آليَّة عمل لعقل جمعي تشارك فيه النخبة من الأُمَّة الصينية وتقرر شؤون الصين وتخطط لمستقبل أفضل حيث عقد الحزب الشيوعي الصيني مؤتمره في الـ16 من الشهر الجاري ويعمل على تغيير دستور الحزب بما يتوافق مع متطلّبات العصر وتحقيق التنمية المتوازنة في كافَّة أنحاء الصين والاستمرار في مشروع “حزام واحد طريق واحد” على مستوى العالم. وهنا تكمن خلاصة سنوات من النقاشات والحوارات على مستوى الصين يشارك بها قرابة مئة مليون من أعضاء الحزب الشيوعي الصيني وتتوصل إلى أفضل المخرجات لمصلحة الصين والعالم.
والعقل الجمعي لا يعني أبدًا التطابق في الرؤى والمفاهيم ولكنه يعني الاشتراك والاتفاق على الأساسيات في التوجُّهات والعمل على التوصل إلى نقاط توافق حول النقاط الخلافية بما يضمن مصلحة المسار العام والرأي الأوزن لما يُمثِّل خدمة القضايا العامة والمصالح المستقبلية المشتركة للشعوب. ويُري التاريخ أن الدول التي تمكنت من العمل على مبدأ الرؤى المشتركة للأساسيات والانطلاق منها إلى تسوية الأمور الأقل أهمية هي الدول التي تمكَّنت من وضع بصمتها على المسار التاريخي للأحداث. أما الدول التي تريد أن تنجز اتفاقات كاملة حول كل صغيرة وكبيرة فهي التي بقيت تعمل بشكلٍ منفرد ولم تتمكن من إحداث أي أثر إقليمي أو دولي أو إحراز مكانة لها في التحوُّلات العالمية.
وفي مثال أقرب إلينا ورغم فشل الدول العربية المؤسف للتوصل إلى عقل جمعي حقيقي مبني على أُسس ومنهجيات، الأمر الذي أضعف الجميع على الساحة الإقليمية والدولية، رغم ذلك ورغم كون الحركة الأسيرة مكبلة بالأصفاد ومسجونة في الزنازين الظالمة والمظلمة فقد تمكنت هذه الحركة ورغم كل إجراءات الاحتلال من تسجيل انتصارات تعد محطات تاريخية وعالمية في مقاومة الاحتلال لأنها توصلت إلى عقل جمعي وإرادة جماعية ووضعت الرؤى والخطط وبذلت التضحيات الغالية والنفيسة في سبيل تحقيق الأهداف، وتميزت بالإيثار ونكران الذات والبذل والعطاء غير المحدودين من أجل خدمة الهدف الوطني الأسمى.
وفي أي مجتمع وفي أي دولة وفي أي حقبة فإن الإصغاء للعقل الجمعي، والعمل على توضيح رؤاه ومفاهيمه وترجمته بعفويته وصدقه إلى خطط عمل ومشاريع، هو الطريق الأسلم لضمان تحقيق المصلحة المجتمعية العليا ولتعزيز مناعة الشعوب والدول وتحصينها داخليًّا وإقليميًّا ودوليًّا. وقد يكون من المناسب التذكير هنا أن الرئيس بوتين تم اختياره كرجل العام لمجلة التايم الأميركية لعام 2007 رغم كل سياساته ومواقفه المزعجة للإدارة الأميركية، وجوابًا على السؤال: لماذا تمَّ هذا الاختيار يجيب ريتشارد ستينجل بالآتي:
“إن رجل العام بالنسبة لمجلة التايم ليس شرفًا ولا مصادقة ولا مسابقة شهرة. في أفضل حالاته هو اعتراف واعٍ ومسؤول بالعالم كما هو واعتراف بأقوى الأفراد والقوى التي تصيغ هذا العالم وهو بالنتيجة حول قيادة جريئة شجاعة، قيادة تغيّر العالم”. ويضيف الكاتب: “ على حساب الرؤى والمبادئ التي يتبناها العالم الغربي، فقد أظهر الرئيس بوتين قيادة استثنائية في تحقيق استقرار لبلد نادرًا ما عرف الاستقرار، وأعاد روسيا على الطاولة كقوة دولية”. فهل سيذكره التاريخ قائدًا لعب دورًا حاسمًا في دقِّ إسفين حاسم في نعش الهيمنة الغربية على العالم ومقدراته؟

أ.د. بثينة شعبان
كاتبة سورية