نشأت في منطقة شعبية، شبه مخططة عمرانيا، كانت منازلها قطع أرض صغيرة أقل من مائة متر، متلاصقة وعرض الشارع لا يزيد عن 10 أمتار، ونواصي تربط الشوارع الفرعية حتى تصل إلى الشارع العمومي، وكانت الزراعات تحيط بها من كل جانب، فقد كانت محافظة الجيزة التي ولدت بها منتصف ستينيات القرن الماضي محافظة زراعية بها آلاف الأفدنة التي تشقها الترع والمصارف، باستثناء شريط ضيق يطل على الضفة الغربية لنهر النيل مواجه لمحافظة القاهرة ويرتبط معها بعدَّة جسور (كباري)، كان أقدمها جسر (كوبري) عباس الذي بناه الخديوي عباس حلمي الثاني في العام 1908، ليربط بين جزيرة الروضة ومدينة الجيزة.
كانت الشوارع ترابية خالية من الإضاءة العمومية، ورغم ذلك كانت مليئة بالأشجار، وكانت نزهتنا اليومية المفضلة في فصل الصيف، الاتجاه للحقول الممتدة المزروعة بالمحاصيل الصيفية القمح والذرة والأشجار الضخمة على شاطئ الترعة، والسواقي والشادوف الذي كان يستخدم في رفع المياه لري الأراضي المحيطة، وكنا نشتري الحليب بأثمان زهيدة من الفلاحين، وكانت رائحة الحطب الذي تستخدمه الفلاحات وبعض نساء الشارع في الخبيز تملأ سماء المنطقة ليلا.
كنا نسكن شقة صغيرة بالإيجار، ومع تحسن الأحوال المادية، فكر والدي في شراء قطعة أرض وبناء منزله الخاص، وهي عادة معظم المصريين المنحدرين من أصول ريفية، وكان هناك شارع جديد يتم التخطيط له، تم تسميته بشارع الملك فيصل الذي كانت تربطه علاقة صداقة وطيدة بالرئيس السادات. وفي العام 1970 انتقلنا إلى منزلنا الملك المتفرع من شارع الملك فيصل، ولم نصبر حتى ننتهي من تشطيبه وانتقلنا فرحين متحمسين وسكنَّاه وهو لم يزل على المحارة بدون طلاء ولا بلاط للأرضية، وكنا نحصل على مياه الشرب من (الحنفية) العمومية، ولم تكن شبكة المجاري وصلت للمنطقة، وكان الصرف عن طريق خزانات أسفل المنازل، وكان الشارع لم تضح معالمه بعد، فكان منزلنا وعدَّة بيوت متناثرة تحيط بها الحقول من كل جانب، وأتذكر شجرة ضخمة تسمى أم الشعور كنا نمسك بغصونها المتدلية ونعبر بها الشاطئ الآخر من الترعة التي تم ردمها في فترة لاحقة وإنشاء طريق الملك فيصل.
امتد العمران رويدا رويدا واختفت الحقول التي قام أصحابها بتقسيمها لقطع أراضٍ صغيرها، وعرضها للبناء دون تخطيط عمراني أو خدمات، وتولى المشترون الذي كان أغلبهم من الطبقات الفقيرة النازحين من الصعيد والدلتا، إدخال المياه والصرف الصحي بمعرفتهم، مع مرور الزمن اختفت الأرض الزراعية، وحل محلها غابات ضخمة من الإسمنت بينها شوارع ضيقة لا تزيد عن 6 أمتار، تفتقد لخدمات التعليم والصحة والصرف الصحي ومياه الشرب، التي تستطيع تلبية حاجات هذا الحجم من السكان الذي تعدى الملايين في ظرف 30 عاما.
تزوجت في شقة بمنزل والدي، وبعد عشر سنوات، انتقلت إلى شقة أكبر في شارع رئيسي بنفس المنطقة، ورغم إلحاح أولادي عليَّ للمغادرة، والتوجُّه للسكن بإحدى المدن الجديدة التي ظهرت في مصر في الألفية الجديدة، ولكن كان هناك حنين يربطني بشارع الملك فيصل، فهنا الأهل والأصدقاء والأماكن التي شهدت طفولتي ومراهقتي وشبابي.
بحكم عملي الصحفي، اهتممت كثيرا بتطوير المنطقة وكنت زائرا مستديما للمحافظة والحي، أنقل مطالب الناس برصف الشارع والنظافة وإزالة الإشغالات، حتى قررت الحكومة أخيرا، تطوير المنطقة واختراق التكدس العمراني بإنشاء محور عرضي يربطها بالطريق الدائري، واستبشرت خيرا فمسار المحور، كما ظهر في الرسومات الأولية، يمر بجوار شارعي، وقطعا سينقل المنطقة حضاريا ويرفع قيمتها السوقية التي ظلت متدنية، ولكني فوجئت بأن مسار المحور انعطف يسارا متجها لمنزلي، واستيقظت من النوم ذات يوم، لأجد علامة سوداء على جدار العمارة وعندما استفسرت من حارس العقار، نظر إليَّ وهو يكاد يبكي، وأعطاني ورقة، تصفحتها، وكأن صاعقة نزلت على رأسي، إنه إنذار بإزالة العمارة.


محمد عبد الصادق
[email protected]
كاتب صحفي مصري