بدون الذهاب بعيدا عن حياة الناس وواقعهم الحقيقي، ندرك جميعا أن كل شخص يرغب في شيئين من وظائفهم ومهنهم: أن يوفق في عمله، وأن يجد السعادة بعدها. بمعنى آخر الكل يود أن يستمتع بعمله قدر الإمكان، وأن يصبح أكثر سعادة كشخص نتيجة لذلك. وهذه بلا شك أهداف معقولة، ولكن يمكن أن يكون هناك الكثير من الأسئلة التي يجب طرحها! الكثير من الناس، وخصوصا الأشخاص الذين يعملون بجد، يبسطونها بطريقة منطقية: يسعون أولا إلى النجاح ثم يفترضون أن النجاح سيؤدي إلى السعادة... أوَلَيس كذلك؟
ولعلِّي أرى حاليًّا أنَّ هذا المنطق خاطئ. فمطاردة النجاح ـ إن صحَّ لي التعبير ـ لها تكاليف يمكن أن تؤدي في النهاية إلى خفض السعادة، كما سمعنا ذلك من بعض مدمني العمل المستمر والوحيدين. وهنا بالطبع لا يعني أنه عليك الاختيار بين النجاح والسعادة. يمكنك الحصول على كليهما. لكن أعتقد أنه عليك عكس ترتيب العمليات: فبدلا من محاولة تحقيق النجاح أولا والأمل في أن يؤدي ذلك إلى السعادة، ابدأ بالعمل على سعادتك، مما سيعزز نجاحك.
ولعل الكثير من الناس يتمتع عموما بالمال والمكانة التي أنتجها النجاح النسبي. ومع ذلك، لم يؤدِّ النجاح إلى الرضا التام: فقد أدَّى بشكلٍ غير مباشر إلى قلة الرضا عن الحياة، وعلى الأرجح حدث ذلك من خلال قيود الوقت والتوتر والعلاقات الاجتماعية الفقيرة!
ومن هنا وعلى الرغم من أن النجاح والسعادة مرتبطان، فإن الكيمياء تلك في الغالب أحادية الاتجاه، وليس بالطريقة التي يفكر بها معظم الناس. لذلك العمل على نجاحك لتصبح أكثر سعادة غير فعَّال في أحسن الأحوال، وقد ينفجر في وجهك ويقودك إلى التعاسة. لكن العمل على سعادتك يمنحك أفضل فرصة للحصول على كليهما!
صحيح أنه حتى لو كان كل ما ذكرته منطقيا بالنسبة لك، فقد لا تزال تجد نفسك تقع في عادات قديمة للبحث عن السعادة من خلال النجاح الدنيوي في العمل. وكأنني أتصور قصة ذلك الفنان الجائع، حيث يقوم ذلك الرجل فيجوع نفسه في قفص من أجل لقمة العيش كعمله في كرنفال متنقل، وهو مهووس بعمله، وباعتباره منشد الكمال، فإنه يسعى إلى ما قد أسميه ـ صوما لا تشوبه شائبة ـ فيفخر فنان الجوع بنجاحه، رغم أنه دائما ما يكون كئيبا!! فأين تلك السعادة المرجوة يا ترى بعد العناء؟
وبعد مرور الوقت وهو على حاله تلك، يصبح فعل فنان الجوع ذاك خارج نطاق المصلحة العامة. وفي محاولة يائسة لإنعاش حياته المهنية المتعثرة، يحاول الصيام أكثر من أي وقت مضى. وسبحان الله مع ذلك، يتم تجاهله من الناس تماما، ويجلس بمفرده في قفصه. في النهاية سوف يجوع فنان الجوع نفسه حتى الموت!
ختاما، ربما يكون لدينا القليل من فنان الجوع ذاك بداخلنا، ولكن صدقا لن تجد السعادة بالتخلي عن السعادة، فلا تجوع نفسك. بل حتما ستزداد احتمالات نجاحك إذا أكلت!



د. يوسف بن علي الملَّا
طبيب ـ مبتكر وكاتب طبي
[email protected]