في واحدة من المرات القلائل التي أدارت فيها أصابعي محرك البحث بعيدا عن الفضائيات التي تناقش الراهن السياسي العربي والعالمي، وجدت نفسي أمام إحدى الفضائيات التي تعرض فيلم (كوكب الشرق) في الذكرى الأربعين لرحيل سيدة الغناء العربي أم كلثوم، التي غادرت عالمنا في الثالث من فبراير عام 1975م.
تدور أحداث الفيلم في فترة زمنية محددة من حياة أم كلثوم، ودورها بعد ثورة يوليو 1952م المصرية، والتركيز على الفترة التي تلت هزيمة مصر عام 1967م، موضحة الدور الوطني الكبير الذي قامت به أم كلثوم، عندما جابت الشرق والغرب، مطلقة حنجرتها الذهبية، مغردة في حب مصر، وقد وهبت كل عائدات حفلاتها ـ التي قدرت وقتها بمئات الآلاف ـ لصالح المجهود الحربي المصري، وتشاء الأقدارأن لا ترحل أم كلثوم عن عالمنا، إلا بعد أن اطمأنت على انتصار مصر على عدوها الصهيوني، ورد اعتبارها أمام العالم أجمع.
لم تعزف أم كلثوم (هذا النشيد الوطني الغالي) منفردة، فقد شاركها العزف مجموعة كبيرة من الفنانين المصريين، ومنهم الراحل عبدالحليم حافظ، الذي قدم مجموعة من أحب الأغاني الوطنية للشعب المصري، وقد كانت هذه الأغاني سببا في إلهاب مشاعر المصريين تجاه حب وطنهم، مغردا بصوته أعذب الألحان في حبه والتغني بانتصاراته وأمجاده، وكان عبدالحليم من الفنانين الذين أسهموا في بناء مصر والحث على تشييد أكبر صروح الصناعة والمشروعات القومية العملاقة فيها، فكان خير سند للعامل المصري، في أشد فترات احتياج مصر له، وقد تبرع للوطن بأمواله التي كان يتحصل عليها نتيجة إحيائه للكثير من الحفلات الفنية.
وقد خرج العديد من الفنانين يجوبون مصر والأقطار العربية، يقدمون أعمالهم الفنية؛ ويهبون عائدها هدية للوطن، ولن ننسى ما قدمه قطبا السينما العربية، الفنان فريد شوقي والفنانة فاتن حمامة، من تضحيات في هذا الجانب، إعلاء لشأن الوطن، والخروج به من عثراته.
وفي مشهد غير بعيد، نرى أناسا محسوبين علينا ـ بكل أسف ـ وقد أداروا محركات بحثهم؛ بحثا عن لحظات انكسار للوطن، وفي مقابلهم، نجد أناسا ـ محسوبين علينا أيضا وبكل أسف ـ يتربعون في فضائيات مناهضة، يحرضون على حرق الوطن، متناسين، أو فلنقل غافلين عن النتائج الكارثية لتحريضهم، وهم أول من ستمتد إليه هذه النيران، عندما لا تفرق بين أهله وذويه، وعمن يحرض ضدهم.
المشهدان يمثلان أمامنا جميعا، ونحن نتابع الفضائيات، كل حسب توجهه، ولا يستطيع أي منا مهما باعدت الأيام والسنون بيننا وبين هذين المشهدين، أن ننسى تفاصيلهما.
الأول زف لنا ملحمة مفعمة بالوطنية، تذكرناها حتى بعد مرور عقود كثيرة عليها، وقد حفظتها ذواكرنا؛ لنرى ما وصل إليه الفنان من وعي، للدور الحقيقي المنوط به تجاه وطنه وأهله، وقد ضحى بالغالي والنفيس، ذودا عن حياض وطنه، لأنه يدرك تمام الإدراك أن عزته من عزة وطنه، وقد أوصله نبل أخلاقه وجميل صنيعه، أن يحفظ له التاريخ معروفه، وتمر علينا السنوات، فيذكرنا التاريخ بأمجادهم، وما قدموه للوطن، حتى يراه عزيزا بين الأوطان.
أما الثاني، فمصيره متروك للتاريخ؛ ليقل فيه كلمته، التي أظنها، لن تجافي الحقيقة، وستعري نواياه الحقيرة، لأنه حكم على نفسه بالحرق، قبل أن يسهم بتحريضه على حرق الوطن، الذي أراه شامخا، رغم حقد الحاقدين، والسواد الذي يعشش في نفوسهم.

إيهاب مباشر