.. ولا يقال: قد صح ذلك في النعت نحو:(وهذا ذكر مبارك أنزلناه) بل قد ثبت في الحال في نحو:(لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) ثم قال سبحانه:(ولا جُنبًا) لان الحال بالخبر أشبه، ومن ثم اختلف في تعددهما، واتفق على تعدد النعت، وأما (جُنبًا) فعطف على الحال، لا حال، وقيل: المنفية حال، و(قيمًا) بدل منها، عكس (عرفت زيدًا، أبو من هو؟(.
فالسكت هنا قد حقَّق هدفه، وفصَل بين جملتين، ومعنيين كانا بغير السكت موهمين، من حيث وقوع الكلمة صفةً، وبها يتضاد المعنى، وتتضارب الدلالة، ويتعاكس المفهوم، ويصبح القيم عوجا، وتختلط المعاني، فالسكت منع حدوث مثل ذلك، ووضع حاجزًا بين هاتين الدلالتين، وهذين المعنيين.
وأما عن ثاني تلك السكتات القرآنية فهي قوله تعالى:(قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) (يس ـ 52).
السكتة فوق ألف (مرقدنا)، وقد وضعها علماء التجويد هنا لعدة أسباب، منها أن وصل الآية بما بعدها يُوهِم أن اسم الإشارة من تتمة كلام المشركين، وهو غير معقول؛ إذ كيف يقولون:(يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا)، ويندبون حظهم، ثم هم يُقِرُّون، ويعترفون أن هذا هو موعود الله، وهو ما صَدَقَ به المرسلون، فإنه سيكون الكلام بهذا الوصل متناقضا، ويهدم بعضُه بعضًا، فهم أصلا مُنكِرون للبعث، والوصل يجعلهم مقرِّين به، فيحدث التعاندُ، ويظهر التعارضُ، فجاءت السكتة اللطيفة لتدفع هذا الوهم، هذا جانب، وهناك جانب آخر هو أن الوصل وعدم السكت والوقف يمكن أن يؤديَ إلى شيء غريبٍ: أن كلمة: (هذا) لو جعلناها صفة لـ(مرقدنا)، فإننا سنبدأ بـ(ما)، وسكون هي (ما) النافية، ويكون المعنى:(ما وعد الرحمن وما صدق المرسلون)، ويتناقض المعنى تمام التناقض، والعياذ بالله، إذ يصير الإثبات نفيا، والاعتقاد السليم معوَجًّا، وتختلط مفاهيمُ العقيدة عند القارئ، ويدب التناقض بين كلمات الآية الكريمة، فإن أصل المعنى:(يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا) انتهى كلامهم، وانقطع حديثهم، وقال الله عز وجل، أو قالت ملائكته تعقيبًا عليهم، وبانفكاك جهتي الكلام: (هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون)، أيْ هذا هو الذي وعد به الرحمن، وصدق فيه المرسلون، و(ما) هنا ستكون موصولةً، لا نافية، ويرسو المعنى الدقيق، ويستقرُّ مراد القرآن الكريم، فبِسَكْتَةٍ لطيفة تَبَيَّنَ انفكاكُ الجهة، وأن هذا مستوًى من الكلام، وأن هذا مستوًى آخر من الكلام، المستوى الأول للكافرين المنكرين للبعث، وهو قول الفاجرين الذين عاشوا حياتهم مترخصين، وعن ربهم وعبادته بعيدين، والمستوى الثاني مستوى سامٍ من الكلام يأتي ردًّا عليهم، ودحضًا لما تقدم منهم، ومتعاكسًا مع ما سبق من حديثهم، و(هذا) مبتدأ لا صفة، و(ما) موصولة خبره، لا حرف نفي ـ كما في التوجيه الأول ـ والجملة مثبتة، لا منفية، والجهة منفكة، ومستوى الحديث متباين تمامًا عما قبله.
وقد جاء في كتاب التحرير والتنوير للطاهر ابن عاشور ـ في تناوله لتلك الآية، وجمال السكت، وبلاغته فيها ـ قال:(قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) هو استئناف بيانيٌّ؛ لأن وصف هذه الحال بعد حكاية إنكارهم البعث، وإحالتهم إياه يثير سؤالَ مَنْ يسأل عن مقالهم حينما يرون حقيقة البعث، و(يا وَيْلَنَا) كلمة يقولها الواقع في مصيبة، أو المُتحسِّر، والويل: سوء الحال، وإنما قالوا ذلك؛ لأنهم رأوا ما أُعدّ لهم من العذاب عندما بعثوا، وحكي قولهم بصيغة الماضي اتباعًا لحكاية ما قبله بصيغة المضيّ لتحقيق الوقوع، وحرف النداء الداخل على (ويلنا) للتنبيه، وتنزيل الويل منزلة من يسمع فيُنادَى ليحضر، و(مَن) استفهام عن فاعل البعث، مستعمل في التعجّب، والتحسّر من حصول البعث، ولما كان البعث عندهم محالا كنُّوا عن التعجب من حصوله بالتعجب من فاعله؛ لأن الأفعال الغريبة تتوجَّه العقول إلى معرفة فاعلها؛ لأنهم لما بُعِثُوا وأزْجِيَ بهم إلى العذاب علموا أنه بعثٌ فعَله من أراد تعذيبهم.


* د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية
[email protected]