جاء توسع العملية العسكرية الروسي الخاصة على الجبهة الأوكرانية، واستهداف العاصمة (كييف) بالقصف الجوي للمراكز والمؤسسات المعنية بالحرب ومراكز الاتصالات والسيطرة، وتدمير مرافق البنية التحتية الحيوية، وخصوصًا مرافق نظام الطاقة الكهربائية الأوكراني، الحدث الأبرز خلال الأيام القليلة الماضية. وقد جاء الفعل الروسي بعد حصول واقعتين:
أولاهما: حادثة تفجير أنابيب الغاز للسيل الشمالي في 8/10/2022 (نورد ستروم2) في مياه بحر البلطيق، وهو ما عدَّته موسكو محاولة لتدمير منشأة بنية تحتية ذات أهمية استراتيجية بالنسبة لها وللاقتصاد الروسي. وتعقيبًا على تفجير أنابيب نقل الغاز (خط السيل الشمالي)، وعلى هامش أسبوع الطاقة الروسي في 12/10/2022 أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في كلمة في الجلسة العامة للمنتدى، بأن روسيا يُمكن أن تضخ كميات الغاز التي خسرتها أوروبا جراء تفجير أنابيب “السيل الشمالي” إلى الدول الأوروبية عبر تركيا والبحر الأسود خلال السيل التركي الذي يزوِّد جنوب وشرق أوروبا بالغاز الروسي، وهو ما رحَّبت به تركيا على الفور.
وثانيهما: تفجير جسر (كيرتش) في القرم الذي يربط بين الأراضي الروسي (البر الروسي) وجزيرة القرم، وهو أطول جسر في أوروبا يربط بين شبه جزيرة القرم ومقاطعة (كراسنودار كراي الروسيتين). فكان تفجير الجسر عملًا هزَّ القيادة الروسية وجعلها “تضرب أخماسًا بأسداس” حين قال ديمتري ميدفيديف: “إن القادة العسكريين الذين أصدروا الأمر بضرب جسر القرم سيصبحون هدفًا انتقاميًّا لروسيا”.
ومن اللافت أن الحادثتين وقعتا بتتابع، الأولى وخلفها أيادٍ خارجية وليست أوكرانية فقط، نظرًا لعدَّة اعتبارات، منها أن العملية تمَّت خارج أوكرانيا وفي مياه بحر البلطيق ما يؤكد ضلوع أطراف دولية تريد استمرار الحرب وهي المستفيدة منها، وتريد من أوكرانيا أن تقاتل حتى آخر أوكراني. والحادثة الثانية والمتعلقة بتفجير جسر القرم، قام بها شخص من أذربيجان محسوب على الأمن الأوكراني، وبتعليمات من قيادة الأمن في كييف، حين قال جهاز الأمن الفيدرالي الروسي إن “منظم الهجوم على جسر القرم هو رئيس الاستخبارات العسكرية الأوكرانية كيريل بودانوف”. حيث لم يتسبب الانفجار بأضرار جسيمة، فتم استئناف حركة المرور على مسار السكة الحديد في نفس اليوم، ومن المتوقع أن تستغرق عملية الترميم الكامل للجسر 45 يومًا وفق مصادر موسكو.
إذًا، تريد واشنطن حربًا كبرى تُشارك بها كل القارة الأوروبية لتدمير روسيا دون أن تخسر جنديًّا واحدًا. بل تريد أن تُقاتل روسيا حتى آخر أوروبي ـ كما قال بعض المحللين السياسيين في الصحف الأوروبية المختلفة ومن المعارضين لزج أوروبا في أتون الحرب إياها ـ لذلك نشهد الآن تصعيدًا واضحًا، في مسار الحرب شرق أوروبا، وواشنطن تعمل على تسعير العداء، وتريد من أوروبا بكاملها أن تسير خلف ما تريده في حربها الخارجية دون مشاركة مباشرة منها ضد روسيا، سوى المساهمة بضخ المال والعتاد.
إن محاولات واشنطن بتسعير الأجواء دَفَعَ بالرئيس الأميركي (جو بايدن) للإعلان عن ما أسماه “اقتراب نهاية العالم النووية”، ولهذا تمت إدانته على الفور من قبل مدير وكالة المخابرات المركزية السابق ووزير الخارجية الأميركي السابق (مايكل بومبيو). لكن الرد الروسي كان صارخًا من خلال وزير الدفاع (شويجو)، في تصريحٍ كان هو الأقوى على الإطلاق منذ بدء العملية العسكرية، حين قال: “من سيقف في وجه روسيا سيختفي من الوجود، ولا أقصد السلاح النووي، بل سنغير مفهوم الحروب البرية، وستعلم دول العالم أنه يجب إعادة تسليح جيوشها من جديد لكي تستطيع مواجهة أساليب واسلحة الحروب البرية الحديثة”.
أخيرًا، يقف العالم كله الآن أمام تهديد حقيقي لا يخرج منه منتصر أو مهزوم. فالجميع سيخسر، ولا خيار إلَّا بالتنبُّه إليه جيدًا. فالولايات المتحدة في محاولتها سحق روسيا تُسرِّع بالوصول إلى المواجهات التي لا تُحمد عقباها، وقد تكون مواجهات نووية تكتيكية أو أكثر. فتفجير خط السيل الشمالي وجسر القرم، دفعا بالأمور نحو حافة الهاوية. بينما من الواضح أن موسكو (ومعها بكين) لا تزال كل منهما تسعى لبناء علاقات مع عموم الدول الأوروبية، وإبعادها عن السطوة الأميركية، خصوصًا بالنسبة لألمانيا، ومن خلال إيجاد “نافذة على المستقبل تندمج فيها أوروبا وآسيا في منطقة تجارية ضخمة”. وكما قال أحد الكتَّاب والصحفيين الروس “لا شراكات اقتصادية استراتيجية إلا مع كيانات ذات سيادة سياسية” ـ ويقصد ضرورة وقف التذيُّل الأوروبي لواشنطن ـ وأنه “لا توجد شراكة مُمكنة بدون أمن البنية التحتية”.

علي بدوان
كاتب فلسطيني
عضو اتحاد الكتاب العرب
دمشق ـ اليرموك
[email protected]