تُمثِّل أحرامات الشوارع مساحة أمان متجددة تستشرف التحوُّلات الحاصلة في شبكات الطُّرق وفرص التوسع المستقبلية فيها في ظل ما يطرحه واقع الازدحام المروري وكثافة المركبات على الطريق والتخطيط العمراني الحضري من تحدِّيات، تستدعي مزيدا من التخطيط الاستراتيجي وثبات الإجراءات وتوظيف هذه المساحة في تسهيل عمليات التفكير في رفع الطاقة الاستيعابية للشارع، سواء عبر إضافة مسارات جديدة أو عبر استخدام تلك المساحة في تعزيز فكرة التنويع في شبكات النقل العام، بإضافة متروا أنفاق أو قطار أو عبر إتاحة هذه المساحة للاستخدامات الذكية التي تستهدف تسهيل الحركة المرورية وتنشيط استخدام الدراجات الهوائية وغيرها، ودون المساس بأكتاف الطريق أو المساحة الوسطية الواقعة بين ازدواجيتي الشارع، وبحيث تستغل تلك المساحة في إضافة الطابع الجمالي للشارع من حيث عمليات التشجير وبعض المجسمات أو اللافتات والإعلانات.
على أن إسقاط موضوع أحرامات الشوارع على واقع شبكات الطرق بسلطنة عُمان وحالة الاحتضار التي تواجهها يعود بذاكرتنا إلى بداية عام 2011، الذي تم فيه افتتاح شارع مسقط السريع والميزة التنافسية التي يتفوق بها على الشوارع الأخرى في محافظة مسقط والتي تبرز في المساحة الواسعة الممتدة التي تزيد عن (100) متر بين كتف الشارع والمناطق الصناعية والسكنية والتجارية المحاذية له والتي كانت قائمة عند تنفيذ الشارع، خصوصا في منطقة الرسيل الصناعية والأنصب وبوشر وغيرها، إلا أن المتأمل لشارع مسقط السريع اليوم يجده على غير تلك الصورة ليس في حجم ما أنجز فيه، بقدر العبث الذي أدخلته أيادي الطمع والجشع في أحرامات الشارع، ولم يعد لأحراماته أي حرمة، فقد انهالت عليه الشركات والمؤسسات الخاصة والعمارات والمباني السكنية لتضع قدمها على أحراماته حتى أصبحت المسافة بين كتفي الشارع وسياج الشركات المباني السكنية لا يتجاوز أمتارا معدودة. وتبقى الإشارة إلى أن شارع مسقط السريع ما هو إلا مثال بسيط لهذا الواقع المؤلم، الذي تعاني منه أحرامات شوارع سلطنة عُمان على اختلاف تصنيفاتها (وطنية وشريانية وثانوية وموزعة ومحلية)، وبيئاتها الحضرية والخلوية، وطبيعتها المستوية والجبلية الوعرة، في مسار يفصح عن أن أحرامات الشوارع قد احتضرت أو كادت في أكثر شوارع سلطنة عُمان.
من هنا يطرح هذا الواقع جملة من التساؤلات حول المسؤول عن هذا التعدِّي الحاصل على أحرامات الشوارع، وإلى أي مدى يُشكِّل غياب التخطيط العمراني الحضري حضورا في تشكيل هذه الصورة؟ ثم هل التحدِّيات التنظيمية والهيكلية والتشريعية وسلطة القرار لها أثرها في هذا الجانب؟ قد يشير البعض إلى عدم وجود مرجعية وطنية محددة بالاسم تقع عليها مسؤولية الرقابة على أحرامات الشوارع، وقد يقرأ البعض القضية في ارتباطها بالتخطيط العمراني الذي يتبع وزارة الإسكان والتخطيط العمراني، في حين يراها البعض أقرب إلى وزارة النقل والاتصالات وتقنية المعلومات، كما يتساءل البعض حول موقع بلدية مسقط وبلدية ظفار في إطار اختصاصاتها من الموضوع ذاته؟ ويتساءل البعض الآخر عن من أعطى الحق لتوزيع الأراضي الصناعية والتجارية والسكنية في أحرامات الشوارع؟ في حين يتساءل آخرون هل يوجد لدى الجهات المعنية بسلطنة عُمان إطار عمل واضح في التعامل مع أحرامات الشوارع؟ محطات تستدعي المزيد من التأمل والبحث، غير أنها تشير بوضوح إلى حالة الفجوة وتنازع الاختصاصات وتشتت الجهود، ومدى وضوح الإجراءات وثباتها التي تمنع من التعدِّي على أحرامات الطرق. ومع ما يطرحه الموضوع من تساؤلات، فإنه يشير أيضًا إلى حالة من المفارقات ذلك أن موضوع أحرامات الشارع لم يغب عن توجهات الحكومة، واستحضار الموضوع في التشريعات بدأ منذ فترة مبكرة، فمثلا قرار اللجنة العليا لتخطيط المدن رقم (19/‏90) بشأن القواعد المنظمة لتحديد أحرامات الطرق الرئيسية، جاء في مواده تفصيل دقيق لأحرامات الشوارع بسلطنة عُمان، وورد فيه: (1) يكون تحديد أحرامات الطرق الرئيسية بواقع (120) مترا في المناطق المفتوحة بين المدن و(107) مترا لحدٍّ أدنى داخل المدن؛ بل إن القرار أشار إلى امتدادات أكبر لأحرامات بعض الشوارع بالسلطنة بحسب أهميتها الاستراتيجية والموقع الذي ستُشكِّله مستقبلا، ومن بينها (500) متر للطريق العام الثاني من مسقط إلى وادي حتّى، و(400) متر طريق أدم ثمريت، و(200) متر للطريق الممتد من فرق إلى أدم، على أن يتم تقليل عرض الحرم في المناطق التي تقع فيها منشآت قائمة. وهنا يأتي التساؤل: هل غاب هذا الأمر عن القائمين على تصميم شبكات الطرق؟ الإجابة عن هذا التساؤل تأتي من القرار الوزاري رقم (١٥٥/‏٢٠١٧) لوزارة النقل والاتصالات وتقنية المعلومات، بإصدار اللائحة التنظيمية لحماية الطرق ومرافقها والذي وضع الشروط والضوابط والالتزامات التي يجب من خلالها أخذ الموافقة والتصريح من الجهة المعنية بأي ممارسات تتم في أحرامات الطريق، كما فرضت العقوبات والمخالفات للمتجاوزين لها، بالإضافة إلى القرار الوزاري لوزارة النقل والاتصالات وتقنية المعلومات رقم (156/‏2019) باعتماد دليل تصنيف وترقيم طرق سلطنة عُمان والذي تناول في طياته هذه الأحرامات، مؤشرات إيجابية على أن أحرامات الطرق لها حضورها التشريعي، ولكن يبقى التساؤل مطروحا أين يقف التحدِّي؟
في تقديرنا الشخصي يرتبط التحدِّي الحاصل في هذا الموضوع بثلاثة أمور رئيسية، الأول يتعلق بالمفهوم المعتمد لأحرامات الطريق في سلطنة عُمان، فالقرار الوزاري رقم (155/‏ 2017) من وزارة النقل والاتصالات وتقنية المعلومات عرف في مادته الأولى (6) أحرام الطريق بأنه: المساحة التي تترك للطريق وجميع أجزائه وخطوط الخدمات، وعندما فصل المشرع في المادة نفسها (5) خطوط الخدمات، عرفها بأنها: خطوط المياه والكهرباء والإنارة والاتصالات وشبكات الصرف الصحي والنفط والغاز والممرات والأنفاق والجسور التي يجوز عبورها “، والمفهوم بهذه الصفة لا يشير إلى منع التعدِّي القطعي على الأحرامات، كما لم يجعل من أحرامات الطريق حالة خاصة بالطريق وأجزائه بقدر ما هي مساحة متاحة لكل الخدمات بدون استثناء مع شرط وجود التصريح أو الموافقة، لذلك ونظرا للتوسع في البنية الأساسية وما تتطلبه من وجود هذه الشبكات المتكاملة والمتشعبة، سواء الخدمات الأرضية أو العلوية بحسب طبيعتها، كالكهرباء والمياه والاتصالات والصرف الصحي والغاز وغيرها والتي بوجودها يكون من الصعوبة إضافة أي أجزاء أخرى في الطريق إلا بعد نقل هذه الخطوط والكابلات من مكانها نظرا للثقل الذي يترتب عليها بمرور المركبات، أو كذلك إجراء أي حفريات عميقة أو ترصيع يحتاجه الشارع نظرا للضرر الذي يلحق بها على المدى البعيد وصعوبة حفرها مرة أخرى إذا ما تم تنفيذ الشوارع عليها، إذ إن هذا الاستخدام يفقدها خصوصيتها للشارع، وتصبح هذه المساحة حقا مشاعا لكل الجهات التي يوجد لها موقع قدم في هذه الأحرامات، وتصبح تلك المنطقة أو المساحة معدومة الفائدة للطريق بقدر ما هي مساحة خدمية للبنية الأساسية السكنية والتجارية والصناعية التي تستفيد بإزاحة هذه الخطوط من مواقعها وتوجيهها إلى أحرامات الشارع.
وثانيا يبرز هذا المسار حجم القصور في مسار التخطيط العمراني الموجه وغياب أنسنة الطرق عن الواجهة، وقد ورد تعريف الطريق في اللائحة التنظيمية لحماية الطرق ومرافقها التي أشرنا إليها سابقا بأنه: كل سبيل مفتوح للسير العام للمركبات والمشاة ويشمل المسارب وأكتافها والساحات والممرات والأنفاق والجسور التي يجب عبورها،” ورغم أن المفهوم في شموليته واتساعه وعمقه يعبِّر عن فرص أخرى مستجدة في قراءة مفهوم الطريق في أبعاده النفسية والاجتماعية والاقتصادية والإنسانية، إلا أن عمليات التصميم ما زالت تقرأ الطريق كحالة مجردة مقتصرة على مرور المركبات والشاحنات ـ حتى أصبحت أداة للقتل والحوادث بسبب السرعات الزائدة والممارسات غير السليمة ـ، وليس في كون الطريق مساحة من التفاعلات والتباينات أو التقاربات والمشتركات التي تتجاوز حالة التجريد لتعبِّر عن ذائقة الإنسان الجمالية وروح التغيير والسلام الداخلي والنفسي التي يعيشه، والفرص التي تتحقق له باستخدام طريق تم إنشاؤه وفق أفضل المعايير والمقاييس التي ستنعكس إيجابا على القناعات الشخصية لمستخدم الطريق وأخلاقه ورقي مزاجه، وبالتالي تعزيز القيمة المضافة لأحرامات الشوارع في التعاطي مع مشكلات المستقبل، خصوصا ما يتعلق منها بالازدحام.
أما الأمر الثالث فيرتبط بمفهوم الرقابة على أحرامات الطرق، وهو أمر بات البطء في عملية التعاطي معه من قبل الجهات المعنية ـ ردود المؤسسات غير المقنع حول ما يطرحه المواطن في المنصَّات الاجتماعية ـ يؤكد وجود فجوة في تحديد من يعنيه أمر أحرامات الشوارع، فعلى الرغم من إقرار الاستراتيجية العمرانية في وزارة الإسكان والتخطيط العمراني ووجود هذه الوزارة باعتبارها المرجعية الرئيسية للتخطيط العمراني في سلطنة عُمان بكل متعلقاته، إلا أن مشكلة التعدِّي على أحرامات الشوارع قائمة دون إجراءات تبرز المسؤولية القانونية عن هذا الجانب، والأمر ذاته ينطبق على الجهات الأخرى مثل: وزارة النقل والاتصالات وتقنية المعلومات وبلدية مسقط وبلدية ظفار، الأمر الذي انعكس على جهة المتابعة والرقابة، إذا ما علمنا أن اللائحة التنظيمية لحماية الطرق ومرافقها الصادرة بالقرار الوزاري رقم (١٥٥/‏٢٠١٧) لوزارة النقل والاتصالات وتقنية المعلومات، لم تمنع استخدام هذه الأحرامات إذا توافقت مع الشروط والضوابط والالتزامات، وأخذت الموافقة والتصريح من الجهة المعنية بأي ممارسات تتم في أحرامات الطريق.
وعليه، فإن إرهاصات هذا الموضوع والتباينات الحاصلة بشأنه، والمخاطر الناتجة عنه، وعلى الرغم من حضور هذه الأحرامات في القوانين والتشريعات الوطنية تبقى إشكاليات التنفيذ وما يرافقها من موضوع متابعة ما بعد التنفيذ لهذه الأحرامات وتشعب أو عدم وضوح مرجعية الجهة المعنية بالمتابعة وتطبيق العقوبات والجزاءات، وحالة الاستثناءات المرتبطة باللائحة التنظيمية المشار إليها، ناهيك عن فجوة التنسيق والتكامل بين الجهات المعنية، كل ذلك وغيره يؤسس اليوم إلى الحاجة إلى إيجاد إطار وطني واضح يحمي أحرامات الشوارع من الاعتداء عليها، وتوفير تشريع ملزم يجرّم استخدام هذه الأحرامات في غير الشوارع أو ما يخدمها؛ باعتبارها أحرامات خاصة للشوارع، سواء كان للتوسع المستقبلي فيها أو إضافة أي لمسات تجميلية أو تشجير أو لوائح ـ غير ثابتة ـ يمكن انتزاعها متى ما احتاج الشارع، إذ إن هذا الاستخدام يفقدها خصوصيتها للشارع، وتصبح هذه المساحة حقا مشاعا لكل الجهات التي يوجد لها موقع قدم في هذه الأحرامات، بالإضافة إلى تسمية الجهة المعنية وتحديد صلاحيات المتابعة والرقابة على هذه الأحرامات والتي تمتلك حق التصرفات والمرافعات القانونية في أي تجاوزات أو يد امتدت على الطريق أو اغتصبت حقوقه أو تجاوزت في تصرفاتها حرماته وأحراماته، كما يؤكد ضرورة الالتزام بخط واضح ومحدد لمساحة الأحرام بين الشارع وأقرب قطعة أرض محاذية للشارع بحيث لا يقل عن 100 متر في كل الأحوال عدا المناطق الجبلية التي تكون فيها الشوارع ضمن أملاك المواطنين ومزارعهم، ومع ذلك ينبغي أن لا يقل الأحرام عن هذه المزارع عن مسار مركبتين، وتضمين ذلك ضمن المخططات الإسكانية وملكيات الأراضي والرسم المساحي (الكروكي)، وإعادة النظر في الإجراءات الحالية والضوابط المعمول بها، ورسم خريطة أحرامات الشوارع واحترامها من المواطن والمؤسسات عبر إجراءات ثابتة تحافظ على ما تبقى من أحرامات، وتوفير تشريع ملزم يجرّم استخدام هذه الأحرامات في غير الشوارع أو ما يخدمها؛ باعتبارها أحرامات خاصة للشوارع.


د. رجب بن علي العويسي
[email protected]