في الثاني من أكتوبر 2022م، الساعة الثانية ظهرا، حانت اللحظة المنتظرة بتحليق أحد أجنحة “الطيران العُماني” في سماء مسقط، متوجها بنا إلى قاهرة المعز التي وصلناها حوالي الساعة الخامسة مساء، وفي يدي كما هي عادتي رائعة الكاتب السوفييتي “قبل شروق الشمس”، التي أصدرها “المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب”، فكم نحن ممتنون لدولة الكويت التي تقدم لنا هذه “الإبداعات العالمية” من روايات وفنون القصة والمسرح والشعر والفكر العالمي والدراسات والأبحاث العلمية التي لا تقدرها الأثمان، وبترجمات عالية الجودة وأسعار متواضعة جدا مقارنة بأسعار الكتب التي ترتفع قيمتها باستمرار. توصف الرواية بأنها من النوع الذي “يجمع بين الرواية والسيرة الذاتية والقصص والدراسات النفسية، وهي نوعية نادرة من الكتب التي تستحق الالتفات إليها بشكل خاص... “، وقد أخذت من عمر كاتبها أكثر من “عشرة أعوام في جمع مادته”. ففي الوقت الذي كان فيه منشغلا بالتنسيق والتهيئة لإصدار عمله الأدبي، “تساقطت القنابل الألمانية على وطنه ونجت الأوراق بأعجوبة”، فالرواية كتبت في زمن شهد فيه تحوُّلات وأحداثا جسيمة وفارقة في تاريخ أوروبا خاصة، وتناولت جانبًا مهمًّا من حياة الكاتب تتعلق بـ”تقصِّي أسباب كآبته المريعة التي سيطرت عليه لأعوام طويلة...” ليصل في رائعته الروائية إلى حقيقة أن “السعادة تحرر صاحبها من المخاوف والعبودية...” ويعد موضوعها واحدا من أهم الموضوعات التي تشغل الإنسان في الماضي والحاضر. بدت ملامح القاهرة تظهر تباعا من نوافذ الطائرة التي شدت إليها ركابها من اليمين والشمال وهم متلهفون متشوقون لتمضية أوقات بهيجة وأيام سعيدة بين أجمل مناطقها وأحيائها وأسواقها الشعبية والحديثة وصروحها الحضارية. ساعتها استعدت كلمات “المقامة المصرية”، واستحضرتها من ذاكرة هاتفي المحمول، وشرعت أنشدها “من أين نبدأ يا مصر الكلام، وكيف نلقي عليك السلام، قبل وقفة الاحترام؛ لأنَّ في عينيك الأيام، والإعلام، والأقلام، والأعوام. مصر يا أُم الأراضي الخضراء مصر يا أُم السماء الزرقاء، مصر يا أُم العلم والعلماء مصر يا أُم الفقه والفقهاء، مصر يا أُم الجبال الصفراء مصر يا أُم النخيل الخضراء، مصر يا أُم المياه العذباء مصر يا أُم القلوب البيضاء، مصر يا أُم الشعر والشعراء مصر يا أُم أمير الشعراء، مصر يا أُم المنيا عروس الصعيد في الدنيا، مصر يا أم الإسكندرية عروس البحر الأبيض”. وتذكرت كلمات الأديب الكبير نجيب محفوظ الخالدة “مصر ليست مجرد وطن بحدود... ولكنها تاريخ الإنسانية كله”. بعد توقف الطائرة ببضع دقائق دبَّت الحركة وانشغل المسافرون على متنها باستخراج وتجهيز حقائب اليد وأمتعتهم البسيطة التي حملوها معهم استعدادا للمغادرة والتوجُّه إلى أروقة مطار القاهرة الدولي، لإنهاء الإجراءات المعتادة، والتي تعني بالنسبة لنا مجموعة “لبان” بداية التنفيذ لبرنامجنا المزدحم الذي أعده بعناية ربان الرحلة ومشرفها، الأخ محمد الرحبي. الحركة في مطار القاهرة عادية جدا، والإجراءات سهلة ومرنة، والعديد من الممارسات والسلوكيات التي تزعج السائح اختفت، فلا تفتيش متعمدا “لغرض في نفس يعقوب” للحقائب، ولا تعقيدات مقصودة من موظفي المطار للحصول على “بخشيش” وخلافه. فيما حركة السير لا تزال خانقة وفي بعض المواقع المزدحمة تحتاج السيارة ساعة كاملة لتجاوز بضعة كيلومترات. القاهرة كتاب مفتوح لا تنتهي فصوله ولا تغلق صفحاته، دراما إنسانية تدفق مادتها بغزارة وتتناسل موضوعاتها من رحم النكتة وتناقضات الحياة وأحوال المجتمع المصري، مزج غريب في المشهد الواحد بين الطرفة والعبرة، المضحكات والمبكيات، المأساة والابتهاج، الحزن والفرح، الفقر المدقع والثراء الفاحش، القصر والكوخ، الفوضى والتنظيم، المماطلة والتنفيذ الدقيق، التنظير والعمل المتقن، الغش والأمانة، الكذب والصدق، جودة السلعة ورداءتها، الصرح الذي يبهر الزائر ويشي بتاريخ عظيم وازدهار كبير، وصور من الواقع الملموس تعبِّر عن وضع مُزرٍ وفاقة وعُسر... شيخ يزجي تلميذه نصائح لا تقدر بثمن في ورشة عمل مهترئة بعرض الشارع، أربعيني يكيل الشتائم لمنافسه لأنه سلب منه زبونه وفقًا لظنه، شحات يلتصق بعابر توسم فيه الخير ولا يتركه يتنفس إلا بعد أن يحصل على بغيته وإن خاب الرجاء فيه فسوف يلقي في وجهه بمصطلحات شتَّى من السباب والثقة ببنهما مفقودة بالطبع، شاب في مقتبل العمر يغطُّ في نوم عميق في الرصيف غير عابئ بأبواق السيارات وازدحام المارة وصخب البشر والمتسوقين من حوله، وآخر يجادل مشتريًا على بضعة جنيهات ولا يتخلص من بضاعته إلا بعد تنازله بأكثر من ثلثي قيمتها في طرحه الأول، فتاة تعرض منتجات حرفية والأسى والبؤس عنوانان لملامحها البريئة يسلبان طفولتها الجميلة، خمسيني يقود سيارته “المرسيدس” بعنجهية وتكبر وكأن ما حوله ملك وتبع له، عربات وسيارات، خيول وحمير، حافلات وقطارات، حنطور وتكتوك، دراجات هوائية ونارية... تنتمي إلى عصور وأزمنة وفئات وأصناف وأشكال وألوان وأحجام لا ترى إلا في شوارع القاهرة، الساحات والميادين والشوارع والمحطات تغص بالبشر ووسائل النقل، درجة أن السائر وسط الحشود يظن أنه وقع في فخ الازدحام الخانق وانغلقت أمامه السبل، ولن يتخلص إلا بعد ساعات، وما هي إلا دقائق حتى تنفرج الأزمة ويتحرك الطابور، بدون إشارات مرورية ولا تنظيم واضح، يا لهذه الخلطة العجيبة والتناقضات العميقة التي تنتج للمبدعين والسينمائيين والكتاب مادة دسمة غنية لأعمالهم في تنوعها وشموليتها، واقع يطرح تساؤلات يصعب لمام شتاتها وجمع أطرافها بمركزها، والاطمئنان إلى إجابات يؤكدها موقف ويبطلها آخر، متى ستنهض هذه الأمة من كبواتها المتلاحقة؟ ومتى سوف تتقدم، أو تولد لديها الإرادة والقرار بأن اللحظة قد حانت لكي نمضي قُدما للحاق بالركب الحضاري، وأن نتوقف عند هذا المكان وكفى ركضا وهرولة إلى الوراء؟ أين نقف نحن العرب، وما هو موقعنا بالضبط مقارنة بالأمم المتقدمة؟ فيما يخص أنظمتنا السياسية وفكرنا وسياساتنا الاقتصادية، أبحاثنا وإنتاجنا العلمي وتقدم أفكارنا ورؤيتنا للحياة والمستقبل وثورة الذكاء الاصطناعي في مسيرة ثورات العلم والمعرفة، ومؤشرات استعدادنا للتحول والتغيير... في معظم الصور والمشاهد والمواقف والحراك وممارسات الإنسان ومحتوى تفكيره... لا أرى ـ للأسف ـ تلك المؤشرات تلوح في الأفق، فما زلنا على بُعد مسافات تتباعد كثيرا عن عصر الحضارة العصرية ومركز التقانة والنهضة العلمية بثوراتها وأبعادها. ويؤسفني أن أظهر متشائما محبطا في نقل الصورة على عكس ما أكتبه عن تطوافي في دول العالم خارج محيطنا العربي، قد تكون الغيرة الشديدة، أو تشابكات الوضع، أو التقدم السريع الذي يشهده العالم وبطئ أو توقف حركتنا. “القرية الفرعونية”، صممت لكي تحكي تاريخ الفراعنة وتصور تمثيلا لتفاصيل الحياة في الحضارة القديمة، بدءا من الآلهة الملوك، والنبلاء وشرائح مجتمع تلك الحضارة عبر فتراتها التاريخية، ويمر السائح بمراحل متعددة خلال تطوافه المتدرج في القرية، انطلاقا من الرحلة النيلية التي تعرض في فقرات حية دور الفلاحين والحرفيين والرعاة والصناعيين والصيادين والمرأة... في الدولة القديمة، فيما يسير القارب المائي ببطء يسمح فيه لركابه باستيعاب الشرح والتقاط الصور التذكارية، والإحاطة بالمشاهد المجسدة التي يقوم بأدوارها مصريون يرتدون الملابس والأزياء القديمة التي ترمز للمهن والحرف والفئات البشرية، ثم ينتقل السائح سيرا لزيارة المتاحف والغرف التي تعرض الآثار والمكتشفات والمقتنيات والمومياوات المنتمية لعصور الفراعنة المزدهرة، ويحصل السائح على بغيته من الصناعات والتحف والقوارير والملابس التي تنتمي إلى الأيام الغابرة من تاريخ مصر. وتعد القرية الفرعونية واحدة من أهم المزارات السياحية في القاهرة التي يقصدها السياح من أنحاء العالم، وهي من بنات أفكار الدكتور “حسن رجب”، الذي حلم بإنشاء متحف “حي يجسد الحياة المصرية القديمة”. “المتحف القومي للحضارة المصرية”، الذي شهد استقبال موكب “المومياوات الملكية الـ22”، المبهر الذي نقلته في بث مباشر، كبريات الفضائيات العالمية في الثالث من أبريل 2021م، بعد مغادرتها “المتحف المصري” بميدان التحرير، يعد اليوم من أبرز الصروح المصرية التي يشد السياح الرحال إليها، وكان مقصدنا بعد “القرية الفرعونية”، فكل ما في هذا المتحف يلفت النظر ويدعو إلى التأمل والتفكير، ويجبر السائح على التوقف أمام تلك الآثار العظيمة والمكنونات الفريدة والشواهد القديمة التي تخبرنا عن حضارات لم يشهد العالم مثيلا لها، وتركت كنوزا لم يحصل شعب ولا بلد شبيه لها في قيمتها وثرائها وضخامتها وكمياتها، حضارات شهدت نهضة علمية وازدهارا اقتصاديا، وتركت إرثا يأتي إليه العالم لمشاهدته والاستمتاع به والتفكر فيه. ففي المتحف إضاءات للحضارة المصرية القديمة، والإسلامية في جميع فتراتها التاريخية ومدارسها العمرانية، وأسرها التي حكمت مصر، ويوجد في فضاء قاعة المتحف الشاسع، “ما لا عين رأت ولا أذن سمعت”، أما متحف المومياوات الحية الميتة، فشيء آخر لا يشبه ولا يعادل ما يراه الناس في أي مكان آخر في العالم، حيث يثير منظرها في الإنسان الإدهاش ومشاعر مضطربة ورؤى ملتبسة، الخوف والإعجاب، وأسئلة تتدفق دون توقف، هل تشعر هذه الأجساد المحنطة التي تحتفظ بشيء من ملامحها وأشكالها الحقيقية بنا؟ وما جرى وحل بها من بعث وعبث وتنقيب وحفظ ونقل لجثامينها؟ وكيف يمكن أن نربط بينها وبين ما تثيره الكتب والتعليمات الدينية عن حياة القبر والثواب والعقاب؟ كيف عاشت في الحقب الزمنية القديمة، وما هي إنجازات وأعمال وأسلوب تفكير كل منها وخصائص شخصياتها؟ ماذا لو بعثت الساعة من مرقدها من بين الخزانات الزجاجية، وشاهدت بشر اليوم يعجبون ويتفرجون عليها وكيف ستتعامل مع زمن غير زمنها وأناس لا ينتمون إليها في التفكير والطبيعة وملامح الحياة بشكل عام؟ كنت أدقق في شعر رأسها الذي ما زال محافظا على هيئته وفي الأنف والأذن وملامح الوجه وبقية أعضاء الجسد والشبه فيما بينها وبين الإنسان اليوم، واستيعاب العبر والدروس، فيا لغرابة الإنسان والحياة ومستوى الازدهار العلمي الذي بلغه عصر الفراعنة.


سعود بن علي الحارثي
[email protected]