منذُ نعومة أظافري وأنا أخربش بالحِبر السائل لتفيضَ أفكاري لطفًا وشجنًا ورغبةً فتلطخ ثيابي بدموعٍ من أنينِ الناس... يجدون قلمي أحاديَّ القُطب، أنسج ملحمةً من واقعٍ محزن بنهايات لا تُشبه النهايات السعيدة في حكايات الجدَّات... بَلْ أضْحتِ النهايات التي أراها نارًا توقد في أفئدة الثكالى من هذه الحياة..
لَامَني بعضُهم بسوداوية قلمي، حيثُ لا مكانَ للفرح بَيْنَ سُطوري بالرغم من أنَّني أشعُّ تفاؤلًا وأهدج بابتسامتي الساخرة من الأيام، وتحمل ذاكرتي صخبًا من زخمٍ بتدفق غزير من التعاطف مع الناس وتآزُر وجداني بلا حدود... فلَمْ أستطعْ يومًا التوقُّف عن إظهار الحساسية والإنسانية تُجاه الناس رغم عِلمي بضرورة فصْل حياتي المهنية كطبيبة عن مشاعري.
أنا لا أنسى مرضايَ، بَلْ إنَّ أحلامي متعلقةٌ برموش مُقَلهم... نُواجِه أنواء الصِّعاب معًا ونَمتشقُ حسام الأرواح لننتشلَ أنفسَنا
من كُلِّ قصَّة وجِلَةٍ تُذيب الألوان من حَوْلِنا.
بعض المواقف تجعلُني أقبعُ في زاوية مظلمة، ينُوءُ على قَلْبي حِملها لتوقدَ جوانحي نيرانها ولا يطفئها حتى فيضانات جارفة من الدموع الحارقة... كيف سأغفُو بإنسانيَّتي المُكبَّلة في داخلي بعد كُلِّ وجعٍ أراه، بَلْ إنَّ إنسانيَّتي تأسرُني بحساسيَّةٍ عالية تُجاه الناس، ومَنِ استطاع أنْ يحجزَ دمعاته بأنَّاتها ولا يُبالي بوجَعِ غيرِه.. تنزوي إنسانيَّتُه خلْفَ الرتابة وقضبانِ النمطيَّة السَّائدة، وتجعل منه بِركةً راكدة يعلوها العفَنُ.
غمامة الحزن تُهديني ما لا يُمكنُ للفرح أنْ ينثرَه وما يدورُ من حَوْلي من أحداثٍ واجمة يغدقُني بحصَّتي من حكمة أهلِ البلاءِ على الابتلاء، وبالرغم من عتمة المنظر يخلق بَيْنَ ثنايا روحي ما يُحوِّل الظلمات نورَا، وعباءة الأحزان حبورًا.
ولطالما اعتقدتُ بأنَّ حساسيَّتي وصدقي عقَباتٌ تؤخِّر خطوات مستقبَلي، ولكنِّي لَمْ أندمْ يومًا على قداسة قلمي ونزاهة سريرتي، وعلى طلَبِ الحقِّ وقولِ الحقِّ... قَدْ لا أملكُ ذكاءً اجتماعيًّا، بَلْ أتوشَّحُ الصِّدق في كُلِّ صلاة، ولا أرتدي أقنعةً زائفة لأستجديَ بها حفنة امتيازات بذلَّة وصغارة كالذين في قلوبهم مَرضٌ حيث تغتال ضمائرهم المحتضرة على نعْشِ إخفاقاتهم... وتشفي نواقصهم بعنجهيَّة مُقرفة متعطِّشة للسُّلطة... وأنا على يقينٍ بأنَّ الحقَّ لا يُهزم وستطْهُر كُلُّ بقعةٍ تمَّ تدنيسُها.
لقد كان لصِدْقي خصوصيَّة وجاذبيَّة يخفق لها الوجدان في كُلِّ ما كتبتُ وأبدعتُ؛ كَوْنُها تأتي من الناس وإلى الناس... وأستشعرُ فيها اللحظات بشجاعةٍ على لافتاتِ زمنٍ مُوجٍع، لا أحِيدُ عن المألوف ولا أجنحُ.
وسأظلُّ أكتبُ بشغَفٍ، سأكتبُ عن طوقِ الذكرياتِ وقدسيَّة الحكايات، ومَنْ لَمْ يقرأْ لِي اليوم، بالتَّأكيد سيقرأُ غدًا خربشاتي المُتهدجة على جدار الزمن الهاوي بلُغةٍ تفيضُ من أجْلِ السِّيرة والأثَر...
وما زلنا نشاطرُهم أفراحَهم... ولكنَّ نصيبَنا من زخمِ أتراحِهم لا يُنسى ولا يمرُّ... ولا تتخيَّل نَفْسَك يومًا خاليًا من الناس.

د. رقية بنت إسماعيل الظاهرية
طبيبة وكاتبة عُمانية