ندرك جميعا كيف أن الناس يكونون في أكثر حالاتهم كرما، وأكثر فرحا، وأكثر إبهارا عند التحدث مع أصدقائهم وعنهم. وهنا لعلَّ القوة الأبسط والأكثر وضوحا التي تُشكِّل الصداقات وتحافظ عليها هي قضاء الوقت معا وفيما بينهم. بل وليس من المستغرب أن تتشكل في الأماكن التي يقضي فيها الناس الكثير من وقتهم، سواء بالعمل، والمدرسة، والمسجد، وحتى في أنشطتهم الرياضية. وفي بعض الأحيان يتراكم هذا الوقت ببطء، كما يحدث مع جارين يعيشان جنبا إلى جنب ويتبادلان الحديث بشكلٍ يومي مع بعضهما البعض لمدة عشرين عاما!
صحيح قد يكون تكوين صداقات أمرا صعبا، ولكن قد تكون هناك فرص أكثر مما نعتقد. وربما أؤمن هنا بأن الاتصال يمكن أن يأتي من أي مكان وفي أي وقت! لذلك عليك أن تبحث عن الصداقة في أماكن لا تتوقعها أبدا. وإن استطعت القول، قد يكون هناك صديق جديد ينتظر في قِسم التعليقات بمقال تقرأه! وبقدر ما نشعر بأن شبكاتنا الاجتماعية قد تم إعدادها واستقرارها، لم يفت الأوان بعد لمقابلة شخص مهم بالنسبة لك ولبقية حياتك.
أنا شخصيًّا أجد أن الجهد المبذول في التنسيق (أو حتى المكالمات الهاتفية) هو أكبر عائق أمام رؤية الأصدقاء. وربما يكون الأمر أسهل بكثير عندما يتم إدخال شيء ما في جدول أعمالك، وكل ما عليك فعله هو الظهور. مؤكدا هنا أن المجتمع لديه مكان للصداقات، ولكنه للأسف على الهامش. والمفترض أن يؤدي المجتمع دورا داعما للعمل والأسرة، وأن تصمم حياة الأفراد بحيث تؤدي الصداقة الحقيقية الدور الذي يأمله المجتمع بتكاتف أبنائه.
وهنا ألهمني الصحابة (المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم) الذين عاشوا بالمدينة المنورة، بل وعدد من الأشخاص الذين تحدثت معهم والذين تخيلوا شيئا مختلفا لأنفسهم: الأصدقاء الذين ذهبوا للعلاج معا، والذين غذت الصداقة نضالهم من أجل العدالة. حتى أذكر الرجل الذي أعطى كليته لصديقه... فهل هناك أصدقاء صدقا يختارون أن يحبوا بعضهم البعض بشكلٍ جذري كل يوم؟ ربما ما أتحدث عنه هي مُثُل عليا، من المستحيل في عصرنا هذا أن ترقى إلى مستوى كامل، وغالبا ما تعترض الحياة الطريق... ولكنها يقينا موجودة في حياتنا!
من جهة أخرى معظم الأصدقاء الحقيقيين يذكرون أنهم لا يرون بعضهم البعض كثيرا، أو أنهم لا يتحدثون بقدر ما يريدون. وحقيقة ـ وبلا شك ـ أرى هنا أن الصداقة لا يجب أن تكون دائما حول الوجود، يمكن أن يكون أيضا عن الحب الذي يمكن أن يتغلب على الغياب.
ومع ذلك فالغياب لا يجب أن يدوم إلى الأبد. هناك أصدقاء المدرسة الابتدائية الذين بدأوا اللقاء مع زملائهم السابقين مرة أخرى بعد لمِّ شملهم الذي دام خمسين عاما، وحتى أفضل الأصدقاء الذين أعادوا الاتصال بعد أن قرر أحدهم إعادة قميص أو تذكار ما قد أعطيت له قبل عشرين عاما.
ختاما، دائما ما أحب مفهوم النعمة، تلك الهدية العميقة والتي لا يمكن اكتسابها أو استحقاقها. لذلك عندما أذكر النعمة هنا باعتبارها القوة الأخيرة والأكثر أهمية في الصداقات، فأنا أعنيها بطريقتين. الأولى هي المغفرة التي نقدمها لبعضنا البعض عندما نقصر. والأخرى هي المساحة التي تخلق الاتصالات ـ وإعادة الاتصال ـ والتي لا تبدو أقل من كونها معجزة.

د. يوسف بن علي الملَّا
طبيب ـ مبتكر وكاتب طبي
[email protected]