ظفار يا أم النفائس، يا ذاكرة الذوق والتاريخ، يا وطن الجمال ومحراب المقدسات.
يظن محبوك أن شجرة اللبان المقدسة هي هويتك وشهرتك، ويشد بعضهم السفر إليك لمشاهدة جمال خريفك والتأمل في شلالات وديانك وعيونك المائية وكهوفك وشواطئك، ولكنك أجمل من ذلك بكثير وأبدع مما يظنون.
ومن بين كنوزك التي لا تزال بكرًا وتحتاج إلى فك طلاسمها ومعرفة أسرارها فنونك الصوتية الملهمة، ففي هذه الفنون يتدفق قبس روحي من (المانترا) الخفية التي تنقل المنشد أو المردد لهذه الفنون الصوتية من حالة عقلية وروحية إلى حالة أخرى، فهناك فنون النهار التي تلهب الحماس وتنفخ روح القوة في الناس وتستثير (الهبة) لمواجهة أعباء النهار ونداء الواجب؛ للعمل الجمعي التطوعي ومساعدة الناس لبعضهم البعض في بناء بيوتهم أو في صيانة المرافق الطبيعية أو غير ذلك من الأعمال الجماعية الطوعية، وهناك فنون الليل الهامسة، التي يستأنس بها الإنسان المكان والكائنات من حوله، وبها يناغي الطبيعة ومن خلالها يتصل بالمطلق الذي يحيطه فيبثه أمنياته وهمومه، فتارة تحمل هذه الفنون مشاعر حبه كرسائل إيقاعية يرسلها عبر أثير الطبيعة لمن يحب، وتارة يحملها همومه ومشاعره وأفكاره، وكما يقول شاعر (النانا) سعيد عجز الحكماني فإنّ (النانا) تسري بين جميع سكان ظفار تحمل سؤالًا أو لغزًا أو تحمل مضمونًا يبحث عن فهم وتأويل من المتلقي، وتُؤَدّى (النانا) عبر ألحان صوتية تسمى (طورق) من الطرق، أو العزف أو اللحن.
ويمكننا القول بأن (النانا) فن ليلي أنيس، يستعذبه الظفاريون كثيرًا، ينشدونه، ومن خلاله يعبِّرون مجازًا عن معانٍ كثيرة كما يشير شاعر النانا مسلم بن محمد فيخيت المعشني، وعندما يؤدي فنانو (النانا) قصائدهم، يتحول الوضع إلى طقس وجداني وتتغشى الحاضرين حالة روحية فريدة تثير البكاء أحيانًا وأحيانًا تنشط مشاعر الحب وقد تدفع بالناس من حالة التأثر إلى حالة الحركة والفعل.
وتتكون قصيدة (النانا) من مقطعين موزونين، ولكن أحيانا تتكون من ثلاثة مقاطع وتسمى مثلثت؛ يرددها شاعر واحد ومردد واحد أو أكثر، لا سيما عندما يكون الحاضرون ممن تشغفهم (نانا) فيسخن وطيس التناظر وتتفجر العاطفة فتجود بجواهر القول ونفائس الألحان والإيقاعات.
تتجاوز (النانا) مرحلة معرفة الإنسان بالكتابة، فهي موروث شعبي شفوي، يتخطى قرونًا من الزمن ليمتد في الأنثربولوجيا الشعبية لمحافظة ظفار، وتحتكر (النانا) في المناطق الجبلية، فلا يؤديها أبناء المدن عمومًا إلا قليلًا منهم ممن امتزجوا بالجبل والريف وثقافته، ولا يؤديها أبناء البادية، وتغنيها النساء أكثر من الرجال، وكانت في العصر الراهن تشهد إقبالًا من الشباب الريفي الذين يحاول بعضهم أن يدخل عليها تطويرًا أو تعديلًا وبالرغم من جرأة تلك المحاولات التي تتمثل في تأدية (النانا) باللغة العربية أو ترجمتها في سياق صوتي وإيقاعي واحد؛ فإن تلك المحاولات للأسف تمثل اعتداء على هذا الفن الأصيل وتنزع منه روحه، فالنانا لا تحتاج إلى ترجمة ولا تحتاج إلى آلات موسيقية، فكل ذلك من شأنه أن يمسخها و يقتلع منها التأثير النفسي والروحي.
ومن الأفضل الإبقاء على أصالة (النانا) كفن إيقاعي صوتي، ودراسة المناطق الحلقية التي تخرج منها (مانترا) (النانا) وقياس التأثير العقلي والروحي لتلك الاهتزازات والذبذبات التي يوقظها هذا الفن الجميل.
هذا ما تتناوله ندوة (النانا) التي تقام مساء اليوم الثلاثاء بعنوان: (البلاغة اللغوية والدلالات العميقة في شعر (النانا) الظفاري) التي تنظمها جمعية الكتاب والأدباء فرع محافظة ظفار بمجمع السُّلطان قابوس الشبابي للثقافة والترفيه.


* د.أحمد بن علي المعشني
رئيس أكاديمية النجاح للتنمية البشرية