” .. مع تراجع دور القوى التقليدية مثل مصر وغيرها، تبرز قوى جديدة في مقدمتها منافسة إيران وتركيا لأسباب عديدة (سبق وتعرضنا لبعضها في هذه المساحة). من هنا يأتي التقارب الانتهازي أحيانا من جانب أنقرة نحو طهران، للعودة والعمل على الاستراتيجية الأساسية: محاولة زعامة السنة في المنطقة ضمن صراع طائفي مستمر في الدول العربية ذات الأغلبية المسلمة. ”
ـــــــــــــــــــــــــــ

لعل التطورات الأخيرة في المنطقة أزالت بعض الالتباس الذي شعر به كثيرون من موقف تركيا إزاء "الحرب على الإرهاب" العام الماضي، وما بدا للبعض انه خلاف بين تركيا والولايات المتحدة التي تقود الحملة على تنظيم الدولة في سوريا والعراق. كان صعبا على الفهم أن تعلن تركيا دوما أنها ضد الإرهاب، وفي الوقت نفسه تسمح بجعل أراضيها محطة التموين والإمداد والتجنيد الرئيسية للتنظيمات الإرهابية في سوريا. وحين تشكل التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب من نحو أربعين دولة لم تبد تركيا/أردوغان أي حماسة للمشاركة في الحرب ضده. بل إن هناك ما اثير حول استمرار دعم تركيا المباشر للجماعات الإرهابية وعدم اتخاذ أي اجراءات للحد من وصول المقاتلين من انحاء العالم عبر تركيا للانضمام لتلك الجماعات.
وبعيدا عن اتهامات المزايدة المستخدمة في صراعات سياسية التي تقول بأن تركيا متحالفة مع الإرهابيين، وظهيرهم السياسي: الإخوان، في إطار حلم استعادة الخلافة العثمانية على الدول العربية المسلمة في الإقليم لم يكن ممكنا فهم الموقف التركي إلا في إطار التطلعات الإقليمية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان. حتى الموقف التركي من الصراع في سوريا، والذي تقاطع بشدة مع مواقف أطراف عربية يهمها بالأساس إزاحة حكم الرئيس بشار الأسد في دمشق حتى لو تطلب الأمر تدمير سوريا وتشريد نصف أهلها، لم يكن إلا في إطار تلك الرؤية الأردوغانية للمصالح التركية. ومع تدمير العراق بالحرب والغزو البريطاني/الأميركي ـ الذي شاركت فيه تركيا بحماس ـ وضعف مصر اقليميا وخراب ليبيا وتراجع دور الجزائر في أي أمر مشرقي، لم يبق هناك في المنطقة ما يحول دون طموح أردوغان إذا، ومن هنا يفهم دعمه المطلق للإخوان (وإن غلفه بشعارات الدين، إلا أن جذره الأساسي هو أن الإخوان هم البديل الغربي للأنظمة الحالية في المنطقة وانتهازيتهم تسهل التحالف معهم).
العقبة الوحيدة، والرئيسية، امام الرهان التركي هي إيران. ورغم أن اردوغان يدير علاقته بإيران بطريقة ماهرة منذ سنوات إلا أن اقتراب اتفاق إيران مع الغرب بقيادة الولايات المتحدة بشأن برنامجها النووي يزعج اردوغان بشدة. والاعتقاد السائد ان اتفاقا بين الغرب وإيران لن يكون فقط بشأن البرنامج النووي والعقوبات، وانما لا شك سيتضمن "تفاهمات" بشأن كافة قضايا المنطقة. ومع فك الارتباط الأميركي مع العالم، والمنطقة في قلبه، وترك المصالح الأميركية والغربية في عهدة قوى اقليمية لا يريد الغرب تفردا اسرائيليا بذلك. ومع تراجع دور القوى التقليدية مثل مصر وغيرها، تبرز قوى جديدة في مقدمتها منافسة إيران وتركيا لأسباب عديدة (سبق وتعرضنا لبعضها في هذه المساحة). من هنا يأتي التقارب الانتهازي أحيانا من جانب أنقرة نحو طهران، للعودة والعمل على الاستراتيجية الأساسية: محاولة زعامة السنة في المنطقة ضمن صراع طائفي مستمر في الدول العربية ذات الأغلبية المسلمة. بدا ذلك واضحا في العراق أولا ثم في سوريا ولبنان وغيرها. ولأن دول الخليج طرف هام في كل تلك المعادلات الإقليمية، يراهن التركي على كسبها في صفه مستغلا علاقته بطهران لتأمين ذلك الاستغلال. فتارة يبدو أردوغان عروبيا أكثر من العرب، وحين يخيب أمله يحسن علاقته بطهران لابتزاز الخليج.
ويبدو أن تلك اللعبة أصبحت مكشوفة لطرفيها ـ أو لنقل أن الكل يعلمها من البداية لكنه كان يحاول استغلالها أيضا لمصلحته ـ فيلجأ الأتراك للعمل المباشر الفج. أول ذلك وأكثره دلالة، الدعم المطلق والقوي لجماعة الإخوان لتستعيد دورا سياسيا في دول مثل مصر وليبيا وربما سوريا ايضا. ومع القلق الخليجي من الإخوان، يصبح اردوغان هو العنوان وصندوق البريد الذي يتعين التعامل معه لاتقاء شر الإخوان على دول الخليج. أما الورقة الأخرى فهي التخويف من إيران، وهو ما يروجه اردوغان الآن ـ متسقا تماما في ذلك مع بنيامين نتنياهو الاسرائيلي ـ بحجة أن أي اتفاق بين إيران والغرب (وتحديدا أميركا) سيضر بالمصالح الخليجية ويجعل طهران "شرطي المنطقة الإقليمي في إطار استراتيجية الغرب". وهذا ما يجري ترويجه الآن، ويلعب الإخوان دورا في تعزيزه لصالح أردوغان.
يرتكز الرهان التركي على عدة عوامل قومية وطائفية (عرب وفرس وسنة وشيعة) في غاية الخطورة على مستقبل المنطقة، ويستغل أدوات لا تقل خطورة (جماعة الإخوان التي يدعمها ومحاولتها استعادة السلطة في بعض الدول بالعنف والتفجيرات) ويدخل في تقاطعات أكثر خطرا (التهاون مع الإرهاب وممالأة داعش والنصرة وغيرها). لكن الأهم في تصوري هو التقاطع الرئيسي للتطلعات التركية مع الخط الاسرائيلي، وتقديم بقية دول المنطقة التي تتطلع تركيا/أردوغان لأن تكون ممثلة لها باعتبارها المنافس على حماية المصالح الأميركية بالتعاون مع إسرائيل بدلا من احتمال قيام إيران بهذا الدور. وللأسف الشديد يهلل البعض في المنطقة لهذه الرهانات التركية، بل إن من هؤلاء البعض من يساهم في الترويج لبعض افتراءات تركية تعمل على دق الأسافين ما بين العرب وبعضهم وبين العرب وإيران.

د.أحمد مصطفى* كاتب صحفي مصري