تحتفل سلطنة عُمان بيوم الشباب العُماني، الذي يصادف السادس والعشرين من أكتوبر، وسط الكثير من الإنجازات الشاهدة على ما تحقق للشباب العُماني، وإن كان هذا اليوم يُمثِّل وسام فخر واستحقاقا وطنيا لدور الشباب في مسيرة التنمية الوطنية، فإنه أيضًا يُمثِّل محطة لالتقاط الأنفاس وتقييما ومراجعة فعلية لواقع الشباب وتحدِّياته وطموحاته وأولوياته وطموحاته المتعاظمة في ظل متغيرات كونية ووطنية متسارعة، وأحداث وقضايا متنوعة باتت تفرض أجندتها على واقع الشباب العُماني، وتحدِّيات فكرية واقتصادية واجتماعية وأمنية وثقافية أسست لمرحلة متقدمة من العمل نحو الشباب ووقفات وتأملات لمزيد من تكامل الجهود وتفاعل الأطر ووضوح مسارات العمل وجدية التوجُّه، ومصداقية الأخذ بيد الشباب وتمكينه ومنحه فرصا أكبر لإثبات بصمة حضوره في برامج التنمية الوطنية وتحقيق مستهدفات رؤية عُمان 2040 تحقيقا للنهج السَّامي الذي رسمه حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المعظم لأجهزة الدولة المختلفة لبذل أقصى الجهد للوصول بالشباب العُماني إلى المكانة التي يستحقها، حيث جاء: “إن الشباب هم ثروة الأمم وموردها الذي لا ينضب، وسواعدها التي تبني، هم حاضر الأمَّة ومستقبلها، وسوف نحرص على الاستماع لهم وتلمُّس احتياجاتهم واهتماماتهم وتطلعاتهم، ولا شك أنها ستجد العناية التي تستحقها”.
على أن ما يدفعنا إلى القناعة بامتداد دور الشباب وتأثيره، باعتباره الحلقة الأقوى في برامج التنمية العُمانية وموقعه في أولويات تنفيذ مستهدفات رؤية عُمان 2040، هو الرقم الصعب الذي يُشكِّله الشباب في البنية الديمغرافية والسكانية لمجتمع سلطنة عُمان، فهو مجتمع فتي يُشكِّل الشباب في مجمله العام أكثر من 33%، حيث تشير إحصائيات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات لعام 2020، إلى أن نسبة الشباب (18- 29) سنة من إجمالي العُمانيين بلغت (20.1%)، وأن ما نسبته (24%) من إجمالي العاملين العُمانيين في سلطنة عُمان هم شباب، كما بلغت نسبة أصحاب الأعمال الشباب (18- 29( سنة من إجمالي أصحاب الأعمال العُمانيين في السلطنة (17.7%)، فإن إسقاط هذه الهواجس والتحدِّيات والطموحات والأولويات في واقعنا العُماني، يضعنا أمام جملة من الملفات التي ارتبطت بواقع الشباب، وأسهمت في تكوين صورة ذهنية أخرى قد يؤدي استمرارها إلى نتائج سلبية على قناعات الشباب وهُويته وانتمائه، حيث يُمثِّل ملف التشغيل والتوظيف من بين أصعب وأعقد الملفات التي يواجهها واقع الشباب في سلطنة عُمان، ورغم الجهود الحكومية المستمرة في الحدِّ من مشكلة تكدُّس الشباب العُماني من مخرجات الدبلوم العام ومخرجات مؤسسات التعليم الجامعي في تخصصات البكالوريوس أو الدبلوم المتوسط، والمبادرات الوطنية المتخذة بشأن الحدِّ من تسريح العُمانيين من القِطاع الخاص والبيانات التي أصدرتها الحكومة في فترات سابقة؛ إلا أن المشكلة ما زالت حاضرة حيث تشير إحصائيات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات إلى أن أعداد الباحثين عن عمل من العُمانيين في سن الشباب (18- 29) حسب إحصائيات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات بلغ عدد العُمانيين الباحثين عن عمل حتى عام 2020 (65.438) شكَّل عدد الشباب (18-29) الباحثين عن عمل منهم (47.007) بواقع (43.4% ذكور) و(56.6% إناث) حيث إن 72% من إجمالي الباحثين عن عمل في سلطنة عُمان هم شباب، حيث يتركز (23%) منهم في محافظة شمال الباطنة.
عليه، تلقي هذه المؤشرات بظلالها على استحقاقات الشباب العُماني وهو يحتفل بيومه السنوي في ظل مرحلة انتقالية جديدة، تشهد فيها سلطنة عُمان توجُّهات اقتصادية جادَّة في رسم ملامح المرحلة القادمة، في إشارة إلى حجم القِطاعات الاستثمارية والإنتاجية واستكمال البنى الاقتصادية الأساسية في الدقم وصحار وصلالة وغيرها، وما يعنيه ذلك من فرضية توجيه هذه المخرجات للعمل في القِطاعات ذات الصلة كالطاقة واللوجستيات وغيرها، غير أن الضبابية واسعة الانتشار التي باتت تعيد تكرار هذا الملف في ظل سيطرة الأيدي الوافدة على القِطاع الخاص حيث تشكِّل ما نسبته (87%) وبقاء عدد العُمانيين في مستوى أدنى من الحضور في القِطاع الخاص (13%) والذي يُعوَّل عليه أن يسهم بنصيب وافر في الاقتصاد الوطني واستيعاب الكفاءات الوطنية، ويطرح الحاجة إلى مراجعات تطول بنية التعليم والتدريب والتخصصات في مؤسسات التعليم العالي، وضرورة مواءمة المخرجات لضمان انخراطها في سوق العمل العُماني، وأن يسهم التعليم ما قبل المدرسي وعبر مسارات التعليم المهنية والفنية والتقنية وتعظيم المهارات في سدِّ حاجة القِطاع الخاص من الأيدي الوطنية الماهرة، وبالتالي إعادة مراجعة التخصصات الأكاديمية في مؤسسات التعليم العالي والجامعات، بالإضافة إلى موقع التعليم التقني والمهني والفني في إطار مسار التنويع في الخيارات التعليمية منذ الصفوف المبكرة في التعليم المدرسي لسدِّ حاجة القِطاع الخاص من الكوادر الوطنية الماهرة وشبه الماهرة وعبر تعزيز بناء مهارات الطلبة من مخرجات ما قبل الدبلوم العام للانخراط في سوق العمل الوطني، والتي تزيد الحاجة إليها بأكثر من 70%، في حين أن ما أظهرته الإحصائيات من أن (40.5) من إجمالي الشباب الباحثين عن عمل يحملون مؤهل بكالوريوس فأعلى، وأن إجمالي الشباب العُماني الباحث عن عمل من مؤهل بكالوريوس فأعلى بلغ (19.031) ليتجه أغلبها في تخصصات: المعاملات الإدارية والتجارية (5.134) والهندسة والتقنيات ذات الصلة (4.269) ألف، وتكنولوجيا المعلومات (3.276) ألف، والمجتمع والثقافة (2.797) ألفا، ثم العلوم التطبيقية والفيزيائية (1.135) وأخرى ( 2.417) ألف، وما يعنيه هذا التكدُّس في مخرجات البكالوريوس في التخصصات سالفة الذكر من الحاجة إلى مراجعات لمستوى الحاجة إلى هذه التخصصات وإعادة تقييم أثرها والحاجة إليها في سوق العمل الوطني، ومراقبة التطورات الحاصلة في سوق العمل للوقوف على طبيعته ونوع الطلب على الكفاءة الوطنية والتخصصات الحالية، والتعاطي منها في ظل تشريعات مرنة وأنظمة حوافز مناسبة، وثقافة مؤسسية تضمن تحقيق معايير المنافسة والتجديد والابتكار، وإتاحة الفرصة لمؤسسات التعليم العالي والجامعات الحكومية والخاصة على حد سواء في ترتيب أوضاعها، وحوكمة أدواتها، وتطوير برامجها الدراسية والتدريبية وتطويعها لتنسجم مخرجاتها مع احتياجات سوق العمل المتجددة، والتخصصات العلمية والتقنية والفنية، ومهارات وظائف المستقبل التي تتطلبها التوجُّهات الاقتصادية الوطنية والثورة الصناعية الرابعة.
من هنا، تأتي أهمية توجيه الاحتفال بيوم الشباب العُماني لتقييم واقع الشباب والنجاحات التي تحققت في معالجة هذه الملفات وانعكاساتها على واقع الشباب، ليكون محطة لالتقاط الأنفاس وتقييم مستوى الإنجاز الحاصل في ملف الشباب في صورته المتكاملة، بحيث يشمل بالإضافة إلى ملف التوظيف والتشغيل والتسريح ملفات أخرى باتت لها صفة التراكمية والتأثير في توليد مشكلات الشباب، فإن التراكمات المرتبطة بالتشغيل والتوظيف والتعمين والتسريح باتت تلقي بظلالها على قضايا الأمن الاجتماعي وارتفاع مستوى الجريمة والجناة بين الشباب العُماني، وتأثيرها في زيادة مستوى الانحراف العكسي في دور الشباب في المنصَّات الاجتماعي، واتساع مساحة التنمر الفكري في التعاطي مع القضايا المجتمعية، ومستوى حضور الثقافة القانونية والوعي الحقوقي للشباب في المنصَّات الاجتماعية وطريقة إيصال المطالب الشخصية والمجتمعية في ظل تزايد الاستخدام غير الموجّه للوسائط في المنصَّات الاجتماعية موجة الشهرة التي باتت تتجه نحو خلق صورة أخرى في واقع الشباب، بالإضافة إلى التحدِّيات الفكرية وثقافة الشباب العُماني وقناعاته حول الكثير من الظواهر الفكرية والنفسية والاجتماعية المرتبطة بالإلحاد والنسوية، ناهيك عن الإجراءات المرتبطة بمشاريع الشباب والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة وغيرها مما بات يطرح في حوارات الشباب ولقاءاته، ويعبِّر عن حالة غير سارة في ظل حجم التعقيدات التي ما زالت حاضرة في إجراءات العمل، وبالتالي قياس مستوى التقدم الحاصل في التعامل مع هذه التحدِّيات، والوقوف على الأسباب والمعطيات والدوافع لها، وما إذا كانت المسألة بحاجة إلى إعادة النظر في السياسات الوطنية الموجهة نحو الشباب في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية والتعليمية والصحية والتقنية والترويحية والرياضية، ومستوى الحاجة إلى التشريعات والقوانين التي تضمن كفاءة الجهود الوطنية في التعامل مع أولويات الشباب وطموحاته والتحدِّيات التي باتت تواجهه ومستوى ما تم حيالها من إجراءات ثابتة وحلول ناجعة، ومدى التوافقية بين أجندة المؤسسات الموجهة للشباب، ثم مستوى الوعي المتحقق لدى الشباب في تعامل الجهات المختصة مع قضاياه.
أخيرا، يبقى وضوح مسار العمل الوطني الموجّه للشباب وفق إجراءات ثابتة وأدوات مقننة ومنصَّات تواصلية منتجة وأدوات تشخيصية دقيقة، تضع الشباب في صورة ما يجري من عمل أولا بأول، بحيث يستوعب الشباب لأثر هذه الجهود ونتائجها، سوف يسهم في خلق مزيد من الثقة، ويصنع من هذه الجهود محطة إلهام متجددة ينتظرها الشباب في يوم السادس والعشرين من أكتوبر من كل عام لتفصح أجندة هذا اليوم عن عمل مقنن تقوم خلاله المؤسسات المعنية بالإفصاح عن جهودها حيال قضايا الشباب المختلفة، بدون استثناء، والحلول العملية المعتمدة بموازناتها، والآليات المتبعة في تجاوز ما تبقى من مشكلات وتحدِّيات، فإن عدم وضوح المسار سيؤدي إلى استمرار الحلقة المفرغة والتقاطعات غير السارة، التي يظل الشباب خلالها في تساؤل مستمر عن قضاياه عبر المنصَّات الاجتماعية أو غيرها، وعندما لم يجد إجابات مقنعة لتساؤلاته، ومعالجات جادَّة لقضاياه، وتعظيم قيمة ما يطرحه عبر المنصَّات الرقمية وميدان العمل من مبادرات وتوجُّهات، فإن هذه التراكمات مع ما يرتبط بها من تأخير في تنفيذ المشروع الحضاري العُماني المتكامل للشباب، سوف ترفع درجات القلق وتخفض مساحة التفاؤلية التي ستؤثر سلبا على مساحة الإنتاجية والمبادرة لتفقد الشباب إلهامه وشغفه وتسدل الستار على طموحاته وابتكاراته ومنافساته.. فلنصنع من السادس والعشرين من أكتوبر يوما مشهودا للشباب العُماني.


د.رجب بن علي العويسي
[email protected]