سيظل السد العالي في مصر ثمرة التعاون بين مصر الناصرية والاتحاد السوفياتي السابق، لكنه سيظل رمزا لمعنى التقدم والعلاقة الخاصة الذي رسمته ملامح مرحلة، فهو بالتالي مزروع في النفوس قبل أن ينشأ على أرض صلبة.
هكذا يفهم الرئيس الروسي بوتين الذي يزور مصر كأول رئيس بعد قطيعة طويلة بين البلدين صنعها الرئيس الراحل انورالسادات حين قام بطرد الخبراء السوفيات، بناء على اعتقاده ان التسوية السياسية في المنطقة هي اميركية مائة بالمائة، لكن البعد الحقيقي للطرد ذاك يتجاوز هذا المفهوم وليؤكد ان هذا الرئيس كان يذهب باتجاه تنفيذ أجندة سياسية خاصة تمسك بها اميركا سياسة المنطقة عموما.
اليوم بوتين في مصر، حيث الهوى الروسي الذي لا يخبو، وحيث الذاكرة الروسية تحن دائما لتكون على ضفاف النيل، فليس أمر على روسيا من ان تسبح خارجه، وعلى عكس ذلك، فإن جوهر السياسة الروسية في المنطقة ان تكون لها موقع قدم في مصر.
صحيح ان العلاقات بين مصر وروسيا آخذة في النمو وهي ترمي الى ترميم الحاجات المشتركة بين البلدين، وخصوصا لمصر التي يبدو انها ذاهبة بمفهوم تنويع السلاح الذي يسمح للقاهرة الشعور بالاستقلال النسبي في هذا الموضوع الحساس، خصوصا وان مصر جربت السلاح الروسي منذ ان كسر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في الخمسينات من القرن الماضي احتكاره.
تبدو القاهرة اذن محطة مهمة للضيف الروسي الذي مازال عبق اسلافه السوفيات قائما في مصر. ثم ان مصر بحاجة اليه في توقيت صعب تمر به وهي تقاتل الارهاب، وتحاول ان تختصر الطريق لإعادة السياحة الى بلد السياحة، خصوصا وان عدد السياح الروس الذين زاروا مصر في العام الماضي بلغ ثلاثة ملايين، والقاهرة تأمل ان ترفعه الى الضعف تقريبا ان لم يكن اكثر، وهي تعلم انه رغم امتناع الكثير من الدول عن مجيء مواطنيها الى مصر للسياحة، ظل الروس محافظين على الزيارة رغم كل الاشارات الأمنية المانعة.
وليست العلاقات بين الطرفين هي كل المباحثات، ثمة منطقة تغلي، وثمة عالم مكتئب من الارهاب الذي يضرب مصر ايضا وتخافه روسيا فيما تتحدث معلوماتها عن حراك له هناك، الا ان سوريا تأخذ قسطا من الكلام المباح، فالدولتان استضافتا معارضين سوريين على اراضيهما، وحاولا قدر الامكان ان يقيما فهما مقربا من الدولة السورية من اجل حل للازمة المستعصية.
ايقظت زيارة الرئيس بوتين للقاهرة وفي ظروف العالم غير الطبيعية، مايمكن ان نسميه فسحة امل ورجاء ان يتمكن الطرفان من اعادة التقاليد المشتركة بينهما وتوظيفها خلال المرحلة بدل الاعتماد الكلي على السياسة الاميركية والأمر والنهي الاميركي الذي تربطه دائما مصالحه في العالم، مع ان كل الدول على هذه الشاكلة، الا ان للروس ومصر قطبة مخفية من الود تفوق المصلحة ايضا.
تلك هي المعادلة الثابتة بين مصر وروسيا، يعرفها الكبار ويمكن لمن ولد حديثا ان يتعرف عليها كي لايخطيء في فهم حقائق بلاده وتاريخها.
يا ترى، ومن خلال حميمية العلاقة بين مصر وروسيا هل يمكن للنيل ان يتحدث بالروسية، مثلما كان نهر موسكو يتحدث العربية ابان حكم عبدالناصر لمصر نتيجة التفاعل المصري السوفياتي آنذاك.