لا تزال الرياح العاتية تهب على الاقتصادات العالمية ومنها اقتصادات المنطقة واقتصادنا الوطني جراء الانهيار اللافت في أسعار النفط، حيث إن بعض التحولات العالمية المؤثرة في الاقتصادات بشكل عام كان يأتي مواكبًا لمؤثرات أخرى، مثل انخفاض سعر النفط مع التضخم وتراجع النمو، ففي الوقت الذي كان فيه سعر النفط ينخفض، كانت موجة من التضخم في ذات التوقيت تجتاح المنطقة والعالم، وفي الوقت الذي كانت تنخفض فيه أسعار الدولار الذي تقيَّم به أسعار النفط والغاز في الأسواق العالمية كانت أسعار الطاقة تتحرك صعودًا، ومع ذلك لم تكن تحقق دخلًا متوازنًا بسبب التهام الزيادة في السعر بفعل انخفاض الدولار.
ما من شك أن تلك المتغيرات تعد امتحانات صعبة أمام الاقتصادات العالمية ومنها اقتصادنا الوطني الذي يجب عليه أن يجتازها في كل مرحلة تحصل فيها مثل هذه المتغيرات والمؤثرات، فالموازنات العامة للسلطنة في تعاقبها ـ خاصة خلال السنوات الأخيرة ـ كانت تعطي مؤشرات إيجابية رغم احتوائها على عجوزات واضحة. صحيح أن هناك زيادات يتم إضافتها على موازنات التنمية وقطاعات الخدمات، إلا أن العجز المتكرر يعبر في أحد أوجهه عن غياب تنوع مصادر الدخل أو ضعفها والاعتماد شبه الكلي على مصدر واحد وهو الطاقة. وصحيح أن اقتصادنا هو اقتصاد دولة ناشئة ما زالت تعتمد على مصدر شبه وحيد للدخل وهو الطاقة إلا أن الجهود ينبغي أن تتوالى للخلاص من هذه الظاهرة الاقتصادية بتنمية المهارات البشرية الوطنية، وتنويع مصادر الدخل، وتوجيه الطاقات الوطنية إلى الوجهة ذات العائد المجزي. ذلك بالإضافة إلى الاستمرار في الاستعانة بكل خبرة أجنبية أو إضافة جديدة إلى سوق التكنولوجيا الحديثة، وتقنين القوانين واللوائح لتشجيع الاستثمار الأجنبي والمشترك، وإتاحة الفرصة للقطاع الخاص ليكون قاطرة لتحريك الاقتصاد الوطني وتسريع عملية النمو، والاستفادة من الدول الصناعية غير المنتجة لمصادر الطاقة ولكنها تمكنت من تنويع اقتصاداتها وتنميتها بصورة مستمرة، واستطاعت أن تقاوم التحولات والمتغيرات الاقتصادية المؤثرة، بل إنها استفادت من انخفاض أسعار النفط في حركة الصناعة وتدوير رؤوس الأموال في عمليات الاستثمار، واستطاعت أن تبني استراتيجيات اقتصادية وطنية واضحة عمادها رأسمال البشري وتبنِّي العقول البشرية في إخراج هذه الاستراتيجيات وتحقيق أهدافها. ولعل الغزو الصناعي من السلع التحويلية والتكنولوجيا والتقنيات وغيرها دليل كافٍ على هذا النجاح. فالنهضة التي قامت في أوروبا خلال العصور الوسطى، فتحت فتحًا جديدًا لقارة كانت غارقة في التخلف والظلام الحضاري. لكن هذه النهضة كانت مجرد مجموعة من الأفكار المتناثرة في عقول عدد من الناس الموهوبة التي وجدت (حاضنًا) يحتضن هذه الأفكار، ويوفر لها إمكانية التحول إلى ابتكارات صناعية أضافت إليها السنين اللاحقة إصلاحات وتطويرًا حتى أصبحت أوروبا قلعة صناعية، أشعت على العالم الحديث بالعلم والمعرفة والتطور التقني الذي تمدد إلى أميركا وآسيا فيما بعد، وجعل من دول ـ لم يكن لها أي رصيد اقتصادي ـ قلاعًا صناعية يتلهف العالم على ابتكاراتها.
الأرقام والنسب حول الأنشطة الصناعية وإسهامها في الناتج المحلي والتي تليت في اللقاء الذي جمع أمس معالي الدكتور علي بن مسعود السنيدي وزير التجارة والصناعة مع الصناعيين بمناسبة الاحتفال بيوم الصناعة العمانية، لا تزال متواضعة ودون الطموح ـ طبعًا مع عدم التقليل منها ـ حيث قدر إسهامها بـ5.497 مليار ريال عماني مع نهاية عام 2013 في الناتج المحلي الإجمالي (بالأسعار الجارية) منها 3.267 مليار ريال عماني كمساهمة للصناعات التحويلية غير شاملة صناعة المواد الكيميائية الأساسية والصناعات التحويلية الأخرى. في حين أن نسبة التعمين هي الأخرى لا تزال متواضعة إذ تشكل حوالي 11 في المئة من مجموع العاملين في القطاع الصناعي. كما أن مساهمة المناطق الصناعية والموانئ الصناعية من حيث نسب الاستثمار، وكذلك دور القطاع الخاص لم ترتقِ إلى المستوى المأمول في ظل وسائل الدعم والتشجيع الممكنة لرفع كفاءة القطاع الخاص وزيادة أنشطته بشكل عام والصناعية بشكل خاص بهدف زيادة الناتج الإجمالي المحلي وتنويع مصادر الدخل. فالحكومة مستمرة في تقديم الحوافز للصناعة ومنها الإعفاءات الجمركية للمعدات والمواد الخام اللازمة للإنتاج والإعفاء من ضريبة الدخل، وتوفير المناطق الصناعية في مختلف محافظات السلطنة، كما تقوم بتوفير البنية الأساسية المتكاملة بالمناطق الصناعية المختلفة سعيًا إلى زيادة القيمة المضافة.
إن اختيار المؤسسات الصغيرة والمتوسطة حقلًا تطبيقيًّا يدل على ترتيب جيد للأولويات فأصحاب هذه المؤسسات هم الأحق بالدعم والتحفيز، انطلاقًا من حقيقة تاريخية مفادها أن كافة القلاع الصناعية الكبرى في العالم بدأت بمشروع صغير أو متوسط ثم تنامت بعد ذلك لتصبح شركات عابرة للقارات، وهذا ما يجب أن تنجح فيه بلادنا وينجح فيه شبابنا.