أيها الكرام.. إنّ الله تعالى أسبل ستره الحميل على عباده، وعم بهذا الستر الحميل طائعهم وعاصيهم مؤمنهم وكافرهم كبيرهم وصغيرهم ذكورهم وأنثاهم صادقهم وكاذبهم، يعين ما أراد منه المعونة، وإن كانت تلك المعونة على غير رضاه، وكما يقال:(يهذب السارق ليسرق فيسأل الله أن يستره وأن لا يفضحه) فيستره الله ولا يفضحه، ومن هنا تكون الصورة العامة للمجتمع صورة طيبة عمومها الخير وشمولها المعروف ومدادها التعاون ومظهرها التألف، ولهذا نجد أن من أهداف الإسلام إظهار هذا الصورة الجميلة في خلق الله من البشر وخاصة المجتمع المسلم، فكره الإسلام مجاهرة السوء والمعاصي والشقاق والتنافر والازدراء والتعالي والتكبر والاحتقار، وحث على عكسها، وقد جاءت النصوص القرآنية تحث على ذلك ومنها:(لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا((النساء ـ ١٤٨)،عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ في قوله تعالى:(لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ..) قال: لا يحبّ الله أن يدعو أحد على أحد إلّا أن يكون مظلومًا، فإنّه رخّص له أن يدعو على من ظلمه، وإن يصبر فهو خير له،(وعن الحسن ـ رضي الله عنه ـ في الآية نفسها قال: هو الرّجل يظلم فلا يدع عليه ـ أي على الظّالم ـ ولكن ليقل: اللهمّ أعنّي عليه، اللهمّ استخرج لي حقّي، حل بينه وبين ما يريد ونحو هذا)،(وعن قتادة ـ رضي الله عنه ـ في الآية نفسها قال: عذر الله المظلوم ـ كما تسمعونـ أن يدعو)، وعن مجاهد في قوله تعالى:(لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ..) قال: هو الرّجل ينزل بالرّجل فلا يحسن ضيافته، فيخرج فيقول: أساء ضيافتي ولم يحسن)، وعنه أيضًا في الآية نفسها قال: ضاف رجل رجلًا فلم يؤدّ إليه حقّ ضيافته، فلمّا خرج أخبر النّاس فقال: ضفت فلانًا فلم يؤدّ إليّ حقّ ضيافتي، قال: فذلك الجهر بالسّوء من القول إلّا من ظلم حتّى يؤدّي الآخر إليه حقّ ضيافته).
واعلم أخي المؤمن أن الفحش بالقول من الأمور المنهي عنه بنض القرآن الكريم فمنالآيات الواردة في ذم المجاهرة بالمعصية (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْوَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الأنعام ـ ١٥١)، وكما ذكرت ـ آنفًا ـ أن سمة المجتمع المسلم الخير العام بلا فحش ولا بذاءة كما (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُون) (الأعراف ـ ٣٣)، فلنكن جميعا ممن يحبون تعميم الخير بين الناس وليس العكس عملا بقوله تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (النور ـ ١٩)،ولنحذر جميعا المجاهرة بالمعاصي فما أكثر الأحاديث الواردة في ذمّ المجاهرة بالمعصية ومنها: ما وري عن سالم بن عبد الله قال: سمعت أبا هريرة يقول سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) يقول: (كلّ أمّتي معافى إلّا المجاهرين، وإنّ من المجاهرة أن يعمل الرّجل باللّيل عملًا، ثمّ يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربّه، ويصبح يكشف ستر الله عنه)، وعن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ قال:(ونهى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أن تشترى الثّمرة حتّى تطعم، وقال: إذا ظهر الزّنا والرّبا في قرية فقد أحلّوا بأنفسهم عذاب الله)، وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال:قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم:(لعن الله آكل الرّبا وموكله وشاهديه وكاتبه)،وقال أيضًا:(ما ظهر في قوم الرّبا والزّنا إلّا أحلّوا بأنفسهم عقاب الله)، وما أحكم هذا الحديث الذي رواه عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال:(أقبل علينا رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم: فقال: يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهنّ، وأعوذ بالله أن تدركوهنّ: لم تظهر الفاحشة في قوم قطّ، حتّى يعلنوا بها، إلّا فشا فيهم الطّاعون والأوجاع الّتي لم تكن مضت في أسلافهم الّذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلّا أخذوا بالسّنين، وشدّة المئونة، وجور السّلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلّا منعوا القطر من السّماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلّا سلّط عليهم عدوّا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمّتهم بكتاب الله، ويتخيّروا ممّا أنزل الله، إلّا جعل الله بأسهم بينهم)،وفي الحديث أيضًا قال رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم):(لو كنت راجمًا أحدًا بغير بيّنة لرجمت فلانة، فقد ظهر منها الرّيبة في منطقها وهيئتها ومن يدخل عليها)،وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت:قال رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم):(يكون في آخر هذه الأمّة خسف ومسخ وقذف، قالت، قلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصّالحون؟ قال:نعم إذا ظهر الخبث)، وعن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) قال:(إنّ الله لا يحبّ الفحش، أو يبغض الفاحش والمتفحّش، قال: ولا تقوم السّاعة حتّى يظهر الفحش والتّفاحش، وقطيعة الرّحم، وسوء المجاورة، وحتّى يؤتمن الخائن، ويخوّن الأمين، وقال: ألا إنّ موعدكم حوضي، عرضه وطوله واحد، وهو كما بين أيلة ومكّة، وهو مسيرة شهر، فيه مثل النّجوم أباريق، شرابه أشدّ بياضًا من الفضّة، من شرب منه مشربًا لم يظمأ بعده أبدًا)،وعن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم): (ليأتينّ على أمّتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النّعل بالنّعل، حتّى إن كان منهم من أتى أمّه علانية لكان في أمّتي من يصنع ذلك، وإنّ بني إسرائيل تفرّقت على ثنتين وسبعين ملّة، وتفترق أمّتي على ثلاث وسبعين ملّة، كلّهم في النّار إلّا ملّة واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله قال: ما أنا عليه وأصحابي).
وقد كان السلف الصالح لا يجاهرون بمعصية ولا يجاهرون بها، بل كانوا ينهون عنه ذلك، ومن الآثار الواردة في النهي عنالمجاهرة بالمعصية:(ما روي عن عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ قال: كان يقال: إنّ اللهـ تبارك وتعالى ـ لا يعذّب العامّة بذنب الخاصّة، ولكن إذا عمل المنكر جهارًا استحقّوا العقوبة كلّهم)، وقال النّوويّ ـ رحمه الله تعالى:(إنّ من جاهر بفسقه أو بدعته جاز ذكره بما جاهر به دون ما لم يجاهر به)،وقال ـ أيضًا:(الّذي يجاهر بالمعصيةكون من جملة المجّان، والمجانة مذمومة شرعًا وعرفًا، فيكون الّذي يظهر المعصية قد ارتكب محذورين: أولهما: إظهار المعصية وثانيهما: تلبّسه بفعل المجّان)، وقال ابن بطّال:(في الجهر بالمعصية استخفاف بحقّ الله ورسوله وبصالحي المؤمنين، وفيه ضرب من العناد لهم، وفي السّتر بها السّلامة من الاستخفاف، لأنّ المعاصي تذلّ أهلها، ومن إقامة الحدّ عليه إن كان فيه حدّ، ومن التّعزير إن لم يوجب حدًّا، وإذا تمحّض حقّ الله فهو أكرم الأكرمين، رحمته سبقت غضبه، فلذلك إذا ستره في الدّنيا لم يفضحه في الآخرة، والّذي يجاهر يفوته جميع ذلك)، وقال ابن حجر ـ رحمه الله تعالى:(من قصد إظهار المعصية والمجاهرة بها أغضب ربّه، فلم يستره، ومن قصد التّستّر بها حياء من ربّه، ومن النّاس منّ الله عليه بستره إيّاه).. نسأل الله أن يجنبنا المعاصي ما ظهر ومنها وما بطن.


* محمود عدلي الشريف
[email protected]