انتهت أعمال المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني في العاصمة بكين (بيجينج) مساء يوم السبت 22/10/2022. وهو المؤتمر الأكثر أهمية في تاريخ مؤتمرات الحزب الحاكم في جمهورية الصين الشعبية، نظرًا للمواضيع المطروحة على جدول أعماله، والظروف الدولية السائدة التي فرضت نفسها على أعمال المؤتمر وأجندته، وخصوصًا مع ارتفاع منسوب الصراع بين كلٍّ من روسيا والصين من الشعبية جهة، والولايات المتحدة من جهةٍ ثانية، ودليلها النزاع المشتعل شرق أوروبا، والذي قدحت واشنطن شراراته، وتريد من خلاله استنزاف روسيا وإضعافها.
بدأت أعمال المؤتمر العام للحزب في الصين الشعبية، بكلمة نارية للأمين العام ورئيس الدولة (شي جي بينج)، وفيها تأكيد بعض الخطوط العريضة، والتنبيه لـ”عواصف” قادمة على امتداد العالم بأسره، وضرورة الاستعداد لها، فبدا خطاب (شي بينج) الأكثر صرامة ووضوحًا منذ تولِّيه الرئاسة في جمهورية الصين الشعبية وقيادة الحزب عام 2012، إذ قطع من خلال كلمته الافتتاحية لأعمال المؤتمر الشكَّ باليقين لدى من كان يراهن على تقلب السياسة الصينية تجاه ما يجري في الوقت الحالي بشأن القضايا المتفجِّرة في العلاقات مع واشنطن، والتحالف مع روسيا، وقضايا التجارة الدولية، والاستثمارات الصينية في إفريقيا وغيرها، وهو ما دفع بصحيفة (بوليتيكو) الأميركية للقول بأن خطاب الرئيس الصيني يُشكِّل مدخلًا إلى ما أسمته وُجهة نظره “القاتمة” بشكلٍ متزايد حول مستقبل العلاقات بين بلاده والولايات المتحدة، حيث يَعد أن واشنطن ستمضي قُدُمًا في سياساتها وشراكاتها لمواجهة نفوذ بكين المتعاظم في المحيطَين الهندي والهادئ وخارجهما. إذًا، لقد بدت الصرامة بكلمة (شي بينج) الافتتاحية لأعمال المؤتمر، صارخة بالنسبة لمسألة جزيرة تايوان، مع وصول التوتُّرات بين بكين وتايبيه إلى أعلى مستوياتها تاريخيًّا. فاحتلت المسألة موقعًا متقدِّمًا في الخطاب السياسي للرئيس(شي بينج)، من خلال التشديد على إعادة توحيد تايوان بالطُّرق السلمية مع البرِّ الصيني باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من الوطن الأُم، من دون استبعاد فرضيَّة اللجوء إلى القوة (لاحظوا عبارة دون استبعاد اللجوء للقوة...) وجميع الوسائل الضرورية ـ على حد تعبيره ـ لتحقيق هذا الهدف. وركَزَّ في خطابه أيضًا، على قطاع التكنولوجيا ودعم الابتكارات المحلّية، باعتبارها عاملًا مُهمًّا في تقدُّم الصين الشعبية، وفي الصراع التنافسي مع الولايات المتحدة، وهو ما دفع بوزير الخارجية الأميركي (بلينكن) وفي محاضرة له في جامعة ستانفورد، بالإعلان عن انتهاء العالم القديم، أي عالم ما بعد الحرب الباردة، مُعتبرًا أن المنافسة المحتدمة حاليًّا ستحدِّد شكل العالم القادم، لافتًا إلى أن “التكنولوجيا في صُلب هذه المنافسة”. وهنا نستطيع تفسير الإجراء الذي اتَّخذته واشنطن قبل شهرٍ مضى، والمتمثِّل في فرْض قيود جديدة على بيع وتصدير تكنولوجيا أشباه الموصلات إلى الصين الشعبية.
على كل حال، ما يهمنا هنا، الحدث اللافت للانتباه في الجلسة الختامية للمؤتمر في قصر الشعب ببكين، حيث عملية إخراج الرئيس الصيني السابق (هو جينتاو) من قاعة المؤتمر من قبل اثنين من الموظفين، وحالة الإرباك في الصف الأول والتي بدت مرئية تمامًا أمام الجميع، وتناقلتها مختلف وسائل الإعلام والفضائيات، باعتبارها كانت مفاجأة، ولم يتم حتى الآن تقديم تفسير لحيثيات الواقعة، سوى التقديرات من هنا وهناك، وعلى لسان هذا أو ذاك من المراقبين. الذين أجمعوا على أن ما حصل كان بمثابة “ضربة” معلِّم من الرئيس (شي جي بينج) لتيار الرئيس السابق في الحزب والدولة والمنادي بـ”التهدئة مع الأميركان، والابتعاد عن فتح دائرة الصراع مع واشنطن، وترك الأمور العالقة للدبلوماسية وحدها”.
البعض من المراقبين، ومنهم من أفصح بوضوحٍ صارخ واستثنائي، ومنهم ـ على سبيل المثال ـ مراقب سياسي روسي مقرب من مصادر القرار، نشر بكبريات الصحف الروسية مقالًا، قال فيه: “الرئيس شي جي بينج مثل فلاديمير ايليتش لينين... إنه يسحق الخصوم أولًا أيديولوجيًّا، ثم تنظيميًّا”. مُضيفًا أن ما تم كان بمثابة “طرد زعيم اللوبي الموالي لأميركا في الصين”..؟
ماذا يعني هذا الآن؟
إنه يعني الكثير من الأشياء. إنه يعني انهيار مجموعة داخل الحزب الشيوعي الصيني، التي أصبح مصيرها الآن في يد الرئيس (شي جي بينج). وهي المجموعة التي تريد التهدئة مع واشنطن، والحياد في معركة روسيا في أوكرانيا. كما كان حال ما يُسمَّى بـ”عصابة الأربعة” التي تشكَّلت في الصين في مواجهة الرئيس الصيني (تنج سياو بينج) بعد رحيل (ماوتسي تونج) ورئيس الوزراء (شو ان لاي) عام 1976.
حقيقة، لم يُهزم الرئيس الصيني السابق (هو جينتاو) تنظيميًّا فقط داخل صفوف الحزب الحاكم في بكين، بل تم تدميره سياسيًّا وشخصيًّا أيضًا، وإهانته بإخراجه من قاعة المؤتمر قبل ختامه أمام أعين العالم بأسره. فكان إخراجه بمثابة إنهاء أي محاولات للتقاطع مع الولايات المتحدة، والاصطفاف القوي إلى جانب روسيا في معركتها المشتعلة مع الولايات المتحدة، التي يبدو بأنها تعمل على مقاتلة روسيا عسكريًّا حتى آخر أوكراني... وحتى أوروبي.
إذًا، كانت عملية ختام أعمال المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني، حافلة بضربة صينية من الرئيس (شي جي بينج) في مواجهة من يريد أن يُهادن الولايات المتحدة، كما هي ضربة لمجموعة قابعة في روسيا، تسعى للتقاطع مع الولايات المتحدة. فخرج منافسي (شي جي بينج) الرئيسيين على منصب الرئاسة، وانتهت حياتهم المهنية والسياسية. عندما تمت هزيمة المعسكر المنادي بالتنازل الصيني أمام واشنطن، بإنهاء زعيمهم علنًا، وهو الرئيس السابق (هو جينتاو).
إن خلاصات أعمال المؤتمر العشرين للحزب الحاكم في الصين الشعبية، أقرَّت أن الصين في حال أرادت حماية صعودها ومركزها على الساحة العالمية. لا بُدَّ لها من دخول معترك الصراع الدولي ومن أوسع أبوابه وعلى المكشوف وفوق الطاولة، وتحديدًا في مواجهة الولايات المتحدة بدلًا من الصراع تحت الرماد المُشتعل. وبكين تعي جيِّدًا، أنه ما عاد بالإمكان “تأجيل” المواجهة مع الغرب، وتحديدًا مع الولايات المتحدة، في حال أرادت حماية صعودها ومركزها على الساحة العالمية. بالرغم من العواصف والعقبات التي سيكون على الصين الاستعداد لها ولمتطلباتها. وعلى حد تعبير الرئيس (شي جي بينج) فإن “عجلات التاريخ تسير نحو إعادة توحيد الصين ونهضة الأُمَّة الصينية”، والتي “تشكّل خطرًا على المصالح الأميركية في العالم”.
أخيرًا، لقد انتخب مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني مكتبًا سياسيًّا من (25) عضوًا، وفتح الطريق أمام دورة رئاسية ثالثة للرئيس (بينج)، وبالتالي ستؤثر نتائج المؤتمر بشكلٍ كبير على السياسة الداخلية والخارجية لروسيا، وستعطيها دفع ودفق من الدعم بشكلٍ أو بآخر لبناء سياسة روسية أكثر صرامة، في مواجهة بعض دول أوروبا الغربية، وأوكرانيا، والولايات المتحدة.



علي بدوان
كاتب فلسطيني
عضو اتحاد الكتاب العرب
دمشق ـ اليرموك
[email protected]