في الخامسة مساء لبينا دعوة غداء أقامتها “نقابة السينمائيين المصريين” و”اتحاد الفنانين العرب”، على شرف المشاركين في “رحلات لبان”، بحضور “سيد الطيار”، أحد المسؤولين في النقابة، الذي سلمه الأخ محمد الرحبي “هدية تذكارية من دار لبان، ومجموعة من الإصدارات الروائية للكاتب العُماني الدكتور سعيد السيابي، عضو وفد الرحلة، فلهم عظيم الشكر على مبادرتهم الرفيعة، والشكر واجب كذلك للدكتور خالد الزدجالي المخرج العُماني المعروف الذي يرتبط بصداقات متينة وعلاقات وثيقة بأعضاء نقابة السينمائيين المصريين، والشخصيات الفنية في مصر، وغيرها من بلدان العالم، وأبى إلا مشاركتنا في برامج هذه الرحلة، رغم مشاغله الكثيرة ومشاركته في “مهرجان الإسكندرية السينمائي”. القطط والكلاب في شوارع وأزقة وحارات القاهرة متآلفة فيما بينها، ترتع من فضلات البشر ما يسد جوعها، ويحفظ لها بقاءها في الحياة، فلها من البيئة التي تعيش فيها نصيبها من المآسي والعِبر التي تجعلها تقنع بالقليل وتحفظ لشركائها في سرير الأرض ولحاف السماء حقهم، لتمضي مسيرة الحياة في ودٍّ وانسجام. أما في الليل فتتفرغ للنباح الذي لا تعرف دوافعه، هل هو الجوع وشحُّ الطعام، أم تعبير عن السخط والشقاء، أم بهجة وراحة بال ومداعبة ومراودة ودعوة القرين لقرينه؟ أم أنها أرادت مشاركة الفقراء المعوزين الذين يكدون في العمل والبحث عن الرزق فيلحقون ليلهم بنهارهم... وعرف عن الكلاب الوفاء، أم أن الأسباب والدوافع جميعها اتحدت فسلبت النوم عنها ليلا لتزعج الأغنياء وخالي البال والمرتاحين من الشقاء والكد، فتنكد عليهم رقادهم؟؟ أما الإعلانات والمحتوى الدعائي فلا أحد يتقنه كالمصريين، الفخامة والسجع والدعابة والمزج بين العامية والعربية والشعر والنثر... والكلمات القليلة التي تعبِّر عن معانٍ ودلالات عميقة ومهام ومزايا كثيرة، تلفت نظرنا باستمرار إدهاشا وإعجابا وطرفة... في صباح اليوم الثاني لجولتنا السياحية الثقافية في الديار المصرية، أخذنا مقاعدنا في قطار الساعة الثامنة صباحا إلى الإسكندرية، لزيارة أهم معالمها السياحية والتاريخية والثقافية، وكانت “مكتبة الإسكندرية”، مقصدنا الأبرز، حيث يحق لكل مصري، بل وعربي أن يفخر بهذا الصرح العلمي ـ الثقافي ـ الفني ـ السياحي، الذي تعددت مهامه وأغراضه كمركز أبحاث ودراسات وملتقى علمي وذاكرة تاريخية وحافظة توثق لأحداث وتاريخ العصور المصرية سياسيا وثقافيا واجتماعيا واقتصاديا وعسكريا... وسير شخصياتها وأعمالهم ومنجزاتهم وأقوالهم المشهورة، والتحوُّلات التي شهدتها وتشهدها مصر، ورصد التنبؤات والتوقعات المستقبلية، وهو مشروع طموح جدا يتوقع أن يحتضن التاريخ العربي بأكمله، وبشكل عام، فالمكتبة تقوم بأدوار اجتماعية وعلمية وتنويرية رصدا وبحثا وتجاربا وتعاونا مع المؤسسات المشابهة والداعمة إقليميا وعالميا، يشير الدكتور مصطفى الفقي في مقال نشرته “الأهرام”، بتاريخ الحادي عشر من أكتوبر إلى أن مكتبة الإسكندرية استلمت “عددا من الخرائط والوثائق المهمة المتصلة بعصر الكشوف الجغرافية...” من دولة البرتغال. وتعد قاعة المكتبة التي تضم حوالي مليونين ونصف المليون كتاب، من أكبر قاعات المكتبات في العالم، وتشرف على العديد من الغرف والصالات والمتاحف المتنوعة بالآثار والمخطوطات والوثائق والمقتنيات القديمة والصور والخرائط، بما في ذلك مقتنيات الرئيس المصري “أنور السادات”، وسيرته، وتعد القبة السماوية من أهم مرفقات المكتبة، التي شهدنا في قاعتها فيلما وثائقيا مبهرا لمدة نصف ساعة، عن الفلك استخدمت فيه التقنيات الحديثة. فالحديث عن مكتبة الإسكندرية يحتاج إلى الكثير من الصفحات والمقالات، وكل المعلومات والمهام والأدوار موجودة في موقعها الإلكتروني. في قلعة “قاتيباي” المهيبة التي تقع في أقصى غرب الإسكندرية، وتعد من أهم وجهات “عروس البحر الأبيض المتوسط”، التقطنا عددا من الصور التذكارية التي توثق ليوم مميز من حياة الإنسان. من “ميدان تل الرمل” وقبيل عودتنا إلى القاهرة، اخترنا بعضا من العناوين الشيقة للكتب التي انتقيناها بكل عناية من الأكشاك المنتشرة في الميدان، والفرح يلفنا بما ظفرنا به من كنز معرفي ثمين. في الخامس من أكتوبر طرنا جوا إلى أسوان استعدادا للرحلة النيلية، على متن السفينة السياحية “البرنسيسة” التي سوف تأخذنا إلى الأقصر، وهو البرنامج الأهم والأكثر تشويقا والمحفز الأساسي لي للمشاركة في هذا التطواف الجميل؛ كونه التجربة الأولى في مسيرة زياراتي وسفراتي إلى مختلف دول العالم. من نافذة الطائرة كان بحر الرمال يمتد من القاهرة إلى اسوان، فيما يظهر النيل بزرقته ونقاء مياهه تارة على شكل جداول صغيرة تغوص بين الرمال، وأحيانا تمتد وتتسع بحيراته وخيراته وفيضانه إلى مساحات واسعة، وكنت أتساءل أمام تلك المشاهد لولا النيل هل ستقوم في هذه الصحارى القاحلة والجبال الجرداء حضارات تتابع الواحدة تلو الأخرى، مخلِّفة هذه الكنوز والآثار والصروح العظيمة التي تتوالى اكتشافاتها منذ قرون وحتى اليوم، وكيف سيكون حال مصر لولا النيل العظيم؟ وهل سيكون لـ”هبة” النيل وجود من الأساس لولاه؟ قدم لنا المرشد السياحي الكفؤ والمفوَّه ـ الذي أعددناه مكسبا يضاف إلى هذه الرحلة ـ شرحا مفصلا عن الحضارات المصرية التي نشأت منذ الحضارة القديمة، والحضارات التي قدمت إلى مصر كاليونانية والرومانية والفرنسية والبريطانية، ودول وممالك الحضارة الإسلامية بعصورها الذهبية، وكشف عن سلسلة من المعابد والآثار والكنائس التي تضمها “اسوان”، والتي اشتق اسمها من “حجر السوان” الذي تشتهر به، ويستخرج من جبالها لبناء المعابد والكنائس والجوامع الكبيرة والقصور المصرية على امتداد الحضارات، وأشار إلى أن سد اسوان الأول بناه الإنجليز في عام 1903م، قبل التفكير في تشييد السد العالي، وبسبب التصدعات التي ضعضعت أساساته تمت إقامة السد العالي بتمويل من قبل الاتحاد السوفييتي في قضية سياسية وتنافس شرس مع الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل تصاعدت حدَّتها ووثقت كتب التاريخ والصحف أحداثها بالتفصيل في تلك الفترة الملتهبة بالصراعات والتحدِّيات. من شاطئ النيل أخذنا القارب السياحي المجهز بالأثاث والكراسي المريحة لزيارة قرية مختارة من قرى النوبة، والتعرف على شكل وتصميم عمارة بيوتهم التي تعد تحفة فنية بألوانها القزحية وقببها المعلقة ومواد بنائها القائم على الطوب، وتفاصيل حياتهم وثقافتهم العامة التي تشكل خصيصة متفردة ونمطا قديما تواصل واستمر حتى اليوم، فما زال النوبي يعيش في تلك القرى على النمط القديم، وما زالت قوافل الإبل تتنقل في أزقتها وأسواقها لكي تؤدي الكثير من الأدوار في حياة المجتمع النوبي، ما جعل منها مقصدا سياحيا مزدهرا خصوصا للشعوب الغربية المتعطشة للغوص والتعرف على هذه الثقافات والأنماط، في واحدة من هذه البيوت تناولنا “المشلتت” أو الفطير المصري مع العسل المحلي والجبنة التي تصنع بذات الطريقة القديمة وتناولنا مشاريب الشاي النوبي المميز. في عودتنا إلى “البرنسيسة”، لفت المرشد السياحي نظرنا إلى مرقد “آغا خان” سلطان محمد شاه الحسيني إمام طائفة الشيعة الإسماعيلية، معلم معماري انفرد في موقع نائي، شد فضولي فعلا حول هذه الشخصية، متسائلا عن دوافع إقامته وسكنه ووفاته في هذا المكان من العالم الذي لا تتوقف مفاجآته وأسراره وعوالمه المحتشدة بالقصص والمواقف وسير الشخصيات وأحداث التاريخ؟ يؤكد المرشد السياحي على أن سلطان محمد شاه الحسيني كان يعاني من الروماتيزم، الذي أقعده فأصبح عاجزا عن المشي على رجليه، وقد فشل الأطباء المهرة في علاجه، فنصحه “أحد الأصدقاء بزيارة أسوان”، فانتقل إليها في العام 1954 ميلادية بصحبة “زوجته وحاشيته ومجموعة كبيرة من أتباعه، فأرشده شيخ نوبي إلى دفن “نصف جسمه السفلي في الرمال لثلاث ساعات يوميًّا ولمدة أسبوع، فنجحت الوصفة في علاجه، وأعادته في اليوم الأخير إلى الفندق معتمدا في المشي على رجليه، وقد توفي الأغا في أسوان، ودفن هنا في هذا الضريح بعد سنتين من وفاته، وبدأت زوجته الرابعة أم حبيبة في ممارسة تقليد يعتمد على غرس وردة على قبر زوجها كل يوم إبان إقامتها في أسوان، و”تعهد إلى البستاني بوضع الوردة يوميًّا في غيابها، وبعد وفاتها “نُقل جثمانها لتُدفن بجوار زوجها في ضريحه”. “معبد فيلة” الذي تنتصب آثاره وأعمدته وغرفه على شاطئ النيل في أسوان هو أحد الصروح الحضارية المهمة الذي أقامه الإغريق إبان احتلالهم لمصر، منقادين لنصيحة الكهنة الذين أغروهم بأهمية الاهتمام بالديانة المصرية القديمة وبناء المعابد لكسب ثقة الشعب المصري، في مقابل ترسيخ أقدامهم وسيطرتهم على ثروات البلاد. وقد استمرت طقوس وممارسة شعائر الآلهة القديمة للمصريين في هذا المعبد حتى العام 400 ميلادي، حتى بعد أن تحوَّل شعب مصر كله إلى المسيحية. وقد أغرق النيل هيكل المعبد بالكامل بعد بناء السد العالي، فتم إنقاذه من قبل اليونسكو وتجميعه في مكان قريب من موقعه الأصلي، ومن يراه في شكله الحالي لا يراوده أي شك بأنه ليس في مكانه السابق. “السد العالي” أو بحيرة ناصر، اللذان يرمزان لعصر القومية والكرامة والنضال والإرادة العربية، والزعامة المهابة التي فرضت احترامها وكانت بمستوى المكانة التي تُمثِّلها الأُمَّة، جمال عبد الناصر الذي نجح في تشييد هذا الصرح المائي الطموح وكسر شوكة وجبروت الإمبريالية الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، وقد سطرت على اللوحة التذكارية كلمات تعبِّر عن تلك الإرادة والرمزية والمكانة “بفضل القائد الخالد جمال عبد الناصر ومن مآثر نضاله وكفاحه المستمر في سبيل الحرية والاشتراكية والوحدة...”. أخذنا بضع صور جماعية من أمام النّصب التذكاري وضريح المفكر والأديب الكبير عباس محمود العقاد، ابن أسوان الذي ولد وعاش بدايات حياته فيها. فيما تقع مقبرة الفاطميين التي تميزت بقببها الضخمة بالقرب من ضريح العقاد، وتضم رفات الكثيرين من قادة وأفراد الأسرة التي حكمت مصر إبان الفترة من “969 – 1171م”. تتشكل أمام المسترخي في سطح السفينة السياحية “البرنسيسة” لوحات جمالية تسلب لب المرء الذي يعيش لحظات الزمن بين عالمي الخيال والواقع، المشاهد تتفوق على المتخيل، فيعتقد بأنها من وحي خياله، ولكن سرعان ما يعود إلى واقعه الطبيعي بين البشر وهم يلتقطون مئات الصور بأشكال وأوضاع مختلفة، لقرى الصعيد وفلاحيها الذين ينشطون في أعمال الحراثة بين مزارع النخيل والمانجا وقصب السكر والتين والموز والحمضيات وغيرها، ويحصدون الثمار ويسمدون الأرض ويروونها من ترع النيل، وينتقلون حاملين الحصاد على ظهور الحمير، ويصل إلى السفينة ثغاء الخراف ونباح الكلاب ونقيق الضفادع وشقشقة العصافير تمتزج بأصوات الأطفال والرجال والشيوخ والنساء وهم يمارسون طقوس وبرامج حياتهم غير عابئين بما يدور خارج قراهم الهادئة والجميلة، لوحات جمالية تتشكل وتتلون بألوان شتَّى، تختفي فتولد مشاهد أخرى من رحمها، الريف الأخضر وتلال الرمال خلفها، غروب وشروق الشمس والليل المتلألئ بالنجوم والقمر في صفحة السماء المعتمة، الطيور المحلقة بأنواعها وتشكيلاتها وصفحة النيل التي تنعكس على مرآته عشرات الصور البهيجة وأصوات الطبيعة ومئات الكائنات الحية التي تعيش بين أحضانها... تضع السائح والمتأمل والباحث عن الدعة والهدوء والراحة أمام حقيقة جمال مصر، والرابط الوجداني والحضاري والتاريخي والثقافي بينها وبين نهرها الخالد، الذي قال فيه أمير الشعراء أحمد شوقي “النيل العذب هو الكوثر * والجنة شاطئه الأخضر * ريان الصفحة والمنظر * ما أبهى الخلد وما أنظر”.


سعود بن علي الحارثي
[email protected]