لا ينتظم السكَّر، تتراكم تعقيداته الجائرة وكأنَّه يبتلعني إلى المجهول، تساورني الظنون في كُلِّ مرَّة أراجع فيها، ويخبرني الطبيب بأخبار سيئة وتراجع المؤشرات واعتلال الأعصاب..ها هي الغرغرينا تتسلق قدَمي اليُمنى بعلَّة لا تبرأ لِتلْتَهمَ المتبقي من جسدي المُثخن بالجراح.. صُمَّت جوارحي بقرار الطبيب بالبتر لأشْهقَ على ناصية ضياعي بلا عودة.
سلكَتْ ساقي دروبًا وعِرَة وأخذتني إلى دربٍ لا أشتهيه، ها هي التواشيح السوداء بدأت تزورني... يا تُرى هل سأفتقد ساقي المبتورة؟ وكم من الوقت سأحتاج لأنسى؟ وهل فقدانُ جزءٍ من الجسد يُنسى؟؟أعدتُ التفكير لأطمئن نَفْسي... فقدانُ ساقِك التي تحملك إلى الأماكن ليس كتوقُّف قلْبِك الذي يحملك في الوجود.. نعم وُلِدنا بأعضائنا ونكتمل بها، ولكنْ ليست جميعها بذات الأهميَّة لنا.أُلملمُ نَفْسي المُتصدِّعة بأملٍ يقفز من فوق السطور يُزيِّن لي انتصاراتٍ وهميَّة لِيَطويَ صفحات خيبتي بتقطيع أوصالي، فقْدُ جزءٍ من الجسد ليس كفقْدِ الروح أو جزءٍ منها، تخلد الروح ويفنى الجسد، ويبيت كمأدبةٍ لمخلوقات الأرض.. ستظلُّ الروحُ أثْمنَ من الجسد، ولكنْ لا بقاءَ لي في هذا العالم من دُونِ جسدٍ... خارت قوايَ بصوتِها الواهن... وما زلتُ أهذي هل ستُبترُ ساقي؟!!ما زلتُ متشبِّثًا بها وإن امتلأت بالندبات الغائرة والخدوش، وأضْحَت عجوزًا قاسية هرمة بعد ما كنتُ أسيرُ بها لسعادتي، أصبحتُ أجرُّ بها جبالًا من الألم... هذا ما يحدُث لنا عندما نتمسكُ بما يوجعنا، لا نفلتُ أيدينا عمَّن نحبُّ وإنْ أقعدنا غدرُ الدنيا فيهم.. نشْحذُ ودًّا كمُتسوِّلٍ يرجفُ في البردِ ونظلُّ عاجزين عن الفرار.. ارجع السلام إلى روحك، ضَعْ مسافةَ أمانٍ بالتخلِّي لِتَحميَ ما تبقَّى من سخاء قلْبِك الدافئ... ما أضعفَك قد يكُونُ البُعد والتخلِّي هو جلّ ما يكسرك... فتغفو بعدها زمنًا على خيبات القادم من أيامك.بعض ابتلاءات هذا الزمن الغادر تؤهِّل إنسانيَّتك، وتُعلِّمك ما لَمْ يعلمك إيَّاه الاستقرار، بل إنَّنا نبني من محصَّلة أحزاننا وإخفاقاتنا نصيبنا من الحكمة، فأتيقن بأنَّ بتْرَ جزءٍ من الجسد قد يتوقف نزيفُه مع الأيام، ولكنَّ فقْدَ جزءٍ من الروح يضرمُ جهنَّم في قلْبِك ليجعلَك من الواجمين مدى الحياة، وستعيش عمرك مكلومًا بالخسارة كلوحةٍ مملوءةٍ بحزنٍ أشْعلَه الصقيع.لا أملكُ جاهزيَّة للاختيارات الصائبة عند المنحنيات الكبرى في حياتي، ولا أعلمُ كيف سأطوي صفحات الخيبة من خيانات الجسد في خريف العمر، وإنَّنا في الحقيقة نشيخ، وإنْ كانت الأرواح لا تشيخ، ولكنِّي وافقتُ على بتْرِ ساقي من السَّعير المُتغلغل في ندوبها... وأعْلمُ أنَّ شبحَ الطرف المبتور سيلاحقني وإنِ استؤصل، سيظلُّ حبْلِي الشَّوكي يكابدُ على أطلاله، وسيفتقدُه مُخِّي الذي يحاولُ التكيُّف مع هذا الانفصال بطريقة غير متوقعة لِيبعثَ إشاراتٍ عصبيَّة بالوجَع لِتعيدَني إلى نقطة الصِّفر.ابتُرْ قدْرَ استطاعتِك أيُّها الطبيب، سئمتُ من الحمَّى، لَمْ أعُدْ أحتمل، لَنْ أُطالبَ باستعادتِها؛ لأنَّني اقتلعتُها من وجداني مسبقًا، مشَيْتُ بها وأنا أجرُّ أذيالَ الوجَعِ شهورًا، بساقٍ أو بِدُونِ ساقٍ، سأصنعُ نمطًا لحياتي، وسأتعلَّمُ كيف أتصالحُ مع نقائصي... وأُجدِّدُ أملَ ساقي بطرفٍ وإنْ كان اصطناعيًّا.

د. رقية بنت إسماعيل الظاهرية
طبيبة وكاتبة عُمانية