حين يعاني العالم من اضطرابات متتالية وعميقة ومتعدِّدة كما يحدث في عالمنا اليوم منذ عقدين على الأقل يصبح من الضرورة بمكان التفكير بعمق والتأمُّل جديًّا بالأسباب الاستراتيجية البعيدة لما يحدث واحتمالات تداعياتها والخطوات الحكيمة التي يجب اتخاذها في مواجهتها، كي لا تصبح معالجة التفاصيل أو الظواهر الآنيَّة لما يجري هي البديل عن الخطط والأعمال الاستراتيجية المعمقة والبعيدة المدى.
حين بدأت الحرب الإرهابية على سوريا انبرت وسائل الإعلام المغرضة والمتواطئة مع الحدث محاولةً تصوير الأحداث بأنها نتاج مَظلمة هنا أو مطالب محقَّة لم يصغ لها أحد هناك، ولكن الأيام والسنين كشفت مخططات مدبَّرة ومموَّلة وآليات عمل مدروسة وممنهجة بتحريض وموافقات إقليمية ودولية مكَّنت خلالها المخابرات الغربية بالتسليح والتدريب عشرات الآلاف من الإرهابيين من الوصول إلى أرضنا الطاهرة وارتكاب جرائمهم الآثمة ضد شعبنا الآمن المسالم بهدف فرض الهيمنة على بلادنا ونهب ثرواتها وضم أراضيها لدول العدوان. وحين أرسلت إيران مستشارين إلى سوريا وأرسل حزب الله المقاوم سندًا لسوريا لمحاربة الإرهابيين كان الطرفان يؤمنان ويصرِّحان أحيانًا أن الدفاع عن سوريا هو دفاع عن إيران وحزب الله. وحين أرسل الرئيس بوتين مستشاريه ودعمه الجوي إلى سوريا صرَّح وفي أكثر من مناسبة أنه يدافع عن موسكو من دمشق.
وها هي الأيام تبرهن بما لا يقبل الشك أن المخطط الاستراتيجي الذي بدأ في سوريا لم يشمل سوريا فقط، وإنما له أذرع أخرى لضمان الهيمنة الغربية على المناطق الجيوسياسية التي يعدونها ضرورية لهم ولأدواتهم ومن أجل الاستمرار في نهب ثروات البلدان الأخرى والتمدُّد في أي اتجاه يرتؤونه كي تكون الليبرالية الاستعمارية الغربية متربِّعة على عرش القوة في العالم، وكي لا يتجرَّأ طرف أن يشكِّل أي تهديد أو تحدٍّ لهذه الهيمنة الاستعمارية. ولذلك نلاحظ اليوم الربط الذي تقوم به الاستراتيجية القومية الأميركية بين كل من روسيا والصين فقد صرَّح وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن أن “استراتيجية الدفاع الأميركي تركز على تعزيز الردع المستدام تجاه الصين”. وأضاف: “التركيز الرئيسي على الصين باعتبارها التهديد السريع وروسيا باعتبارها التهديد الأكثر حدة”. وفي مكان آخر لحظت استراتيجية الدفاع الأميركية أن العلاقات بين روسيا والصين تتعزز وأنه “يمكن لأي منهما أن تخلق مشكلات في حالة نشوب صراع مع أي منهما”. وكانت تصريحات أميركية أخرى سابقة قد حذرت أيضًا من الاتفاقات المبرمة حديثًا بين إيران والصين وإيران وروسيا.
وإذا أخذنا هذه الاستراتيجية الأميركية والتي ولا شك لها تفاصيل معمَّقة ومتشعِّبة تجاه دول وتحالفات تعدها تهديدًا للسيطرة الغربية على الكون وأعدنا النظر بما يحدث في منطقتنا في سوريا ولبنان وفلسطين والعراق واليمن وإيران طبعًا سوف نكتشف وبما لا يقبل الشك أن الخطط الغربية لهذه البلدان مترابطة ومنسَّقة بينما تتم مواجهتها على جبهات متفرقة وبخطط منفصلة أو متناقضةً أحيانًا. وفي هذا السياق فإن ما يرتكبه العدو الصهيوني من جرائم بحق الشعب الفلسطيني والاعتداءات الإرهابية المتواصلة على هذا الشعب الآمن لا بُدَّ وأن يتمَّ فهمها في إطار التخطيط الصهيوني والغربي لمستقبل المنطقة برمَّتها، ومن يعتقد نفسه من العرب بمنأى عن هذا الاستهداف فإنه لا شك مخطئ.
فها هو العدو الصهيوني يرتكب أبشع الجرائم يوميًّا بحق شعب وشباب آمنوا بأنهم أصحاب قضية، والقضية ليست فلسطين فقط أبدًا ولكنها قضية الوجود العربي في هذه المنطقة. وما الحملات التي يشنُّها هذا العدو على المناهج الفلسطينية العربية وتواطئه مع البعض في دول أخرى لإضعاف دور اللغة العربية وإفراغ المناهج من لغة ومواضيع المقاومة لهذا العدو إلا جزء من استراتيجيته لصياغة مستقبل المنطقة بما يخدم أهدافه الاستيطانية العنصرية. ومن هذا المنظور أيضًا يجب فهم استمرار الحرب الاقتصادية والعسكرية والاحتلالية ضد الشعب السوري وضد وحدة سوريا وسلامة أراضيها.
وما لفت نظري في مجريات التحضير للقمة العربية المزمع عقدها في الجزائر تصريح مندوب الجزائر عبد الحميد شبيرة الذي قال: “كل الخلافات تهدف إلى تطوير محيط الدول العربية مع إيران من جهة وتركيا من جهة أخرى”. والسؤال هو: ماذا عن تطوير وتعميق وتصحيح وترسيخ العلاقات بين الدول العربية ذاتها؟ وماذا عن التقاط المعادلات التي يفرضها الأسرى الفلسطينيون والشباب الفلسطينيون المقاومون وشعب فلسطين في كل أنحاء فلسطين مضحين بدمائهم وأمنهم ومستقبل أبنائهم؟ ماذا عن اعتبار الشعب الفلسطيني والشعب السوري والشعب اليمني جبهة متقدِّمة تدافع عن كرامة هذه الأمة ومصلحة هذه الأمة والتي يجري استهدافها بالعمق وإن يكن بشكل متفرق جغرافيًّا أو زمنيًّا؟
لم يكن عنوان “وحدة الساحات” عنوانًا مؤقتًا أبدًا ولم يكن أيضًا مرتبطًا بالساحات الفلسطينية وحدها، ولكنه مرتبط بالساحات العربية والإقليمية والدولية. ولا شك أن مركزية الاستراتيجية الغربية والتي تحاول جاهدة الحفاظ على وحدتها حتى على حساب قوة وتماسك ورفاه بعض دولها كما هي الحال اليوم في الدول الأوروبية، لا شك بأن هذه الاستراتيجية بحاجة إلى استراتيجيات مقابلة تفهم آلياتها وتجترح الآليات السليمة للردِّ عليها. هذا ما تفعله اليوم روسيا والصين وإيران ودول ومنظمات أخرى على الساحة الدولية ولكنَّ الساحة الإقليمية بأمسِّ الحاجة اليوم إلى رؤية عربية مستمدَّة من الدول والأطراف التي عدَّت نفسها صاحبة مبدأ وقضية ونذرت نفسها ومقدراتها لتحقيق هذا الهدف وعدم المساومة عليه.
إن أُمَّة تمتلك المقدرات التي تمتلكها أُمَّتنا، ووطنًا أنعم الله عليه بموقع وتاريخ ولغة وثروات وحضارة، قادر على أن يغيِّر المعادلة في الإقليم والعالم، وقادر جدًّا أن يكون فاعلًا في التحوُّلات الدولية وإرساء أسس مستقبل البشرية، ولا يحتاج من أجل ذلك إلا إلى الرؤية الصائبة والحكمة والرشد في قراءة ومعالجة كل ما يجري ولكن من منظار كبير واستراتيجي وليس من مواقع آنية وصغيرة وسطحية.
قال الإمام علي عليه السلام: “من انشغل بصغائر الأمور فاتته كبائرها”. اللحظة اليوم حاسمة للتركيز على كبائر الأمور؛ لأن المستقبل في الميزان. إني أرى في التهديد الذي تتعرض له أُمَّتنا اليوم وفي بلدان مختلفة وعلى صعد عديدة تهديدًا سريعًا وحادًّا ومصيريًّا، وأنَّ العمل الجادَّ والمسؤول ضرورة وجودية؛ فهل من مجيب؟


أ.د. بثينة شعبان
كاتبة سورية