أجرى اللقاء ـ وحيد تاجا:
أكد الروائي والأكاديمي الفلسطيني د. وليد الشرفا ان الرواية عنده انفلات للذاكرة وقسوة فيضان الصدمات.وعن مشروعه الروائي قال: هو حوار الذات المصدومة المتعاقبة التفسير لهذه الصدمة، الممزقة بين الذكرى الجائعة والحنين المستحيل.
يذكر أن د. وليد الشرفا هو كاتب فلسطيني يعمل أستاذ الإعلام والدراسات الثقافية والعربية والنقد في جامعة بيرزيت منذ عام 2006. وصدر له ثلاث روايات:”اعترافات غائب”. “القادم من القيامة” التي ترشحت ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية. و “ وارث الشواهد والتي انضمت أيضا للقائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية عام 2018. حول مشروعه الروائي وكتاباته كان هذا اللقاء.

ـ الأكاديمي والروائي.. كيف انعكس كل منهما على الآخر؟ وتحديدا كيف استطعت تسخير نظريات الإعلام وأدواته في التأثير على الرواية؟
النظرية مهما كانت وفي أي حقل بنت التصور والممارسة، لكن المصدر الأهم في كل الفعل الإنساني هو التجربة، وتحويلها إلى موقف جمالي، النظرية تقونن الادراك، لكن الشكل الجمالي هو مصدرها الأول، لم أفكر تقنيا بالأمر، لكن الوعي الإنساني الجمالي يمارس دائما لعبة الاستبدال بين التزامن والتعاقب، الرواية عندي كانت انفلاتا للذاكرة وقسوة فيضان الصدمات. حدث دائما تناص بينها وبين الطفل والدارس، ادعي ان الاتصال هو النظرية دائمة الفعل تتموضع جماليا حسب قواعد الشوق والحنين.
ـ هل نتحدث هنا عن مشروع روائي لوليد الشرفا يتمحور حول القضية الفلسطينية بكل ابعادها، لاسيما الاجتماعية والإنسانية منها؟
مشروعي الروائي هو حوار الذات المصدومة المتعاقبة التفسير لهذه الصدمة، الممزقة بين الذكرى الجائعة والحنين المستحيل، فلسطين بكائية مزمنة لامتحان المستحيل والممكن وهي الوارث لكل صدمات الشوق والحنين منذ الأسطورة الأولى، حتى عبثية اللامعنى، فلسطين رعف جمالي تعجز أمامه قواعد التفسير الا من داخله، فهي وجع العقل وجنون القلب والمولد الأول للإنتاج الإنساني، فهي النجاة والولادة والفداء كما اعادت ذلك (وارث الشواهد) لذلك عندما اهرب من فلسطين تحضر هي كمعادل حواري مفترض، بالتأكيد كيف تكون انسانا ولا تكون فلسطينيا .
ـ تصدم أسماء رواياتك المتلقي قبل البدء بقراءة الرواية (ليتني كنت أعمى.. وارث الشواهد.. القادم من القيامة”... وكأنك كتبت الرواية بعد اختيارك للعنوان.. كيف تختار العنوان.. ومتى.. قبل او بعد؟
لا توجد قواعد، لكن العنوان هو مفتاح الصندوق وهو مولد الاستعارات الاولي، العناوين في الغالب اختارها بعد الانتهاء من الكتابة وأحيانا تترك حتى تصميم الغلاف، أحاول صناعة العنوان كعنقود جمالي ايهامي، يترك رائحة وصوت ويحرك الحواس دون الانجرار نحو المجازات الصارخة الممجوجة- أتمنى أني كذلك – لذلك يكون العنوان خليطا بين الحبكة والبطل والمعنى والمكان والزمان، عملية سهلة معقدة، لكن بالفعل كلام سليم اهتم اهتماما استثنائيا بالعنوان.
ـ شبه أحد النقاد “ الوحيد” بطل رواية وارث الشواهد بالسيد المسيح والطبيب بشارة وزوجته ريبيكا، وجوليانا بشارة، بتلاميذه وحواريه؟ ما قولك؟
تأويل معقول، يلخص الأصل الأسطوري للمعنى الذي اشرت اليه في السؤال الثاني، نعم حوارية العودة للأصل وانتشارها، رغم كل الانفاق المحفورة والجدران سيبقى سؤال العدالة والمحبة يتناوبان الإجابة بالتعلق بفلسطين، التي تبشر بمحبة عادلة، وبفداء يكفر خطايا العالم، فلسطين مسيح الأمكنة والازمنة، وتاريخها قبل المسيح كان انتاجا وتمهيدا لهذا الدور الذي يتجدد. اعتقد انه تشبيه حقيقي.
ـ في ذات الرواية حاولت تفكيك الرواية اليهودية لاحتلالها فلسطين.. هل آن الأوان لفك الارتباط بين روايتنا لتاريخنا وبين رواية الآخر لتاريخنا، بمعنى أن نعيد رواية تاريخنا بصوتنا لا بصوت الآخر؟
سؤال مربك ومهم، السؤال المربك الذي حاولت وارث الشواهد عرضه في كوابيسها واحلامها وحواراتها، هو: هل هناك تاريخ او رواية غير فلسطينية! انها جدلية ان تصبح الأسطورة عرقا، اعتقد ان وارث الشواهد كانت رواية فلسطينية بتاريخها الشامل، فكل ما فيها انتاج فلسطيني،الذي حدث هو اغتصاب وخطف الرواية الفلسطينية الطبيعة لصالح ايدولوجيا مركبة دينيا واسطوريا، التاريخ العام لفلسطين هو فلسطيني حتى لو كان يهوديا او مسيحيا او إسلاميا، الرواية محاولة للخروج من فخ المقارنات وخطاب الثنائية، هناك رفض للتورط بمنطق الديني على حساب الطبيعي، ورفض لمبادلة الخطيئة والتكفير، الرواية إعادة اعتبار لرفض الحوار ورفض الانجرار لإرث الدعاية الصهيونية باستبدال الأزمنة والامكنة واسطورية الجمالي لصالح مشروع استعماري، لذلك حفلت الرواية بالسخرية من اسطورة الحداثة التي منح بها العلميون والملحدون الشرعية لإسرائيل بأسطورة الرب المغلوب .
ـ هناك تماهي كبير بين الخيال والواقع في كل رواياتك حتى ان القارئ يعجز أحيانا عن التفريق بين هذا وذاك؟
التخييل يرتبط جدلا بعلاقة وينتج علاقة، لذلك كانت الصدمة في المكان مولدا تخييليا للهروب عبر الزمن، وكانت الصدمة في الزمن حنين يجوع باستمرار دون موت للعودة الى الطبيعي- المكان-، المفارقة تؤسس والادراك يحتاج تخيلا بصرخات الفوضى بين الاسئلة والاجوبة، التأثير الخيالي واقعي دائما حتى لو اختفى، التخيل يزيح الواقعي نحو التجريد، والتجريد دون تموقع جمالي يظل اخرس، التخييل حالة إكراه لصدمة الحواس المستغرقة في توارث الصدمات وهي متوالية لا تنتهي وليست لها قواعد، لا اخطط بشكل واع لهذا التناوب، لكني اعتقد باني سأظل اسيرا له، في محاولة للانفلات نحو فضاء تحريضي، يتوالد الشوق داخل الحنين والحنين داخل الشوق، وهذا يصدق على جميع رواياتي نعم.، الحلم يتكرر واقعيا والواقع يستنسخ الحلم، القسوة والمتعة تتبادلان وتولدان حوارا عصبيا بين اللغة والحبكة والشخوص وعناصر العالم .
ـ كان ملفتاً اللجوء للأفلام والاغاني في رواياتك.. عبد الحليم حافظ وفيروز ووديع الصافي والأغاني الشعبية الفلسطينية؟
التجربة الإنسانية تتوزع بأشكال تعبيرية مختلفة، وفيما أرى ان الاشكال يمكن ان تحاور بعضها ويحدث بينها تناص تجربة، حشد الأغاني والموسيقى والأفلام كان صراخا مضاعفا في الرفض والقبول والاحتجاج يحمل ابعادا رمزية لتشابه التجارب والخيبات والحلول، ربما، كما ان هذه الأغاني شكلت وعيي ورفعته بالعلاقة بين الثقافة والتجربة، ولاحظت حينها ان التجربة هي اعلى درجات الثقافة، إذا وجدت شكلا تعبيريا يبلغها. انها تحفيز ودافع للحواس للخروج من وظيفتها الأولية الى دور أكثر إبداعية وتساؤلا.
ـ اجمع عدد من النقاد على ان رواياتك بشكل عام هي بمثابة طرقة على صندوق باندورا، الذي يحتجز شرورَ البشر، فهل انت متشائم إلى هذا الحد؟
انا لست متشائماً، انا منتظر يجالد الالتحام بالمكان والحل وبفلسطين المتشظية، كلما طال الانتظار شعرت أكثر بالحرمان، وكلما طال الحنين اجهض القلب وتحجر العقل، اعتقد ان الانتظار الفلسطيني طويل، لأنه مطالب الان – بعد الانقسام التائه- أن يعرف نفسه وماذا يريد ، هل هو رسالة للرب ام للقضية، هل هو رهان أيديولوجي افتراضي، ام افتراض طبيعي لعناصر المأساة الفلسطينية، الفلسطيني تحول بفضل قياداته السياسية وهوسه الأيديولوجي الى عبد للسلطة كممكن سياسي او كممكن فقهي وهذا الأخطر الذي تجسد بكيانين جغرافيين يجلسان خلف شعار السلطة ذاتها، انا لست متفائلا بتقليص المساحة بين الفلسطيني والفلسطيني، لذلك يتفاءل الاحتلال، لذلك لن يجتمع تفاؤلي مع الاحتلال.
ـ سؤال أخير.. رأى العديد من النقاد ان السوداوية التي تحفل بها رواياتك تؤسس لرؤية جديدة في الأدب الفلسطيني. ما قولك.. ؟
لا اعرف، احترم رأي النقاد، اعتقد ان الرواية تؤرخ لتاريخ فلسطيني جديد، ينزاح عن الوطن لصالح القوة والسلطة والحوار الأيديولوجي، لذلك كان الرهان على الممكن مصدر التفاؤل، كوني أرى ان الممكن يولد من الواقع لا أرى املا قريبا في الشفاء لذلك تتآكل فلسطين وتنتفخ خطابات استعادتها، وتستبدل بإنجازات ايدولوجية هلوسية، تعتبر نفسها مفاوضا خفيا لله حتى تتحقق المعجزة. فلسطين متعلقة الان بالذاكرة لتعريفها كفلسطين وليس كمعادل للثواب والعقاب.
لذلك اكتب التوجس الذي يفرضه الغوص في المأساة اليومية وليس في الاستدلالات الفكرية الكبرى، أرى فلسطين جسدي الروحي، الروح المريضة تعبير عن جسد ممزق، وهل هناك تمزق أكثر من الانقسام. الذي تم تعويضه بالتحام الأفكار وانتصارها.