يكتنز المشهد الأوكراني في ظلِّ المُواجهة الدائرة بَيْنَ حِلف شمال الأطلسي “الناتو” وروسيا الاتحاديَّة على الأرض الأوكرانيَّة بالكثير من التناقضات، والمواقف مزدوجة المعايير وسياسة الكَيْلِ بمكيالَيْنِ، وهذا الأسلوب ليس جديدًا، سواء في السياسة أو الحروب أو الصراعات المُتعدِّدة الأوْجُه. ومع صعود نجْم القطبيَّة الأحاديَّة بقيادة الولايات المُتَّحدة وانهيار الاتحاد السوفيتي، كانت سياسة ازدواجيَّة المعايير والكَيْلِ بمكيالَيْنِ أحَدَ الثوابت في السياسة الأميركيَّة ـ الغربيَّة في تعاملها مع الأصدقاء والخصوم وحتى اليوم، ولا يزال التاريخ يعجُّ بالشواهد والمواقف المبنيَّة على ازدواجيَّة المعايير والكَيْلِ بمكيالَيْنِ، ولم تقتصر فقط هذه السياسة بصورتها الفجَّة والمُنافقة والبَشعة مع جرائم الحرب التي يرتكبها كيان الاحتلال الإسرائيلي الحليف الاستراتيجيُّ للولايات المُتَّحدة والقوى الغربية، وإنَّما لا تزال حاضرةً وفاعلةً في جميع المِلفَّات، لا سِيَّما تلك التي تتعلَّق بالهيمنة والمصالح الأميركيَّة ـ الغربيَّة.
وما دام الأمْرُ كذلك، فإنَّه لَيْسَ مثيرًا للدهشة والاستغراب تلك الأبواق الإعلاميَّة والتحريضيَّة فيما يتعلَّق بالمُسيَّرات الإيرانيَّة من طراز “شاهد 136”، والحديث عن الصواريخ الباليستيَّة قصيرة ومتوسطة المدى الإيرانيَّة، وقيام طهران بتزويد موسكو بها في إطار العمليَّة العسكريَّة الروسيَّة الخاصَّة في أوكرانيا. ولعلَّ ما يدعم أمْرَ افتضاح هذه الازدواجيَّة وفائض النفاق هو التغاضي عن المُسيَّرات التركيَّة من طراز “بيرقدار” التي تُواصل أنقرة إمداد نظام كييف بها، فضلًا عن قيام دوَلٍ من داخل “الناتو” وعلى رأسها أميركا، وخارج الحِلف كما هو حال كيان الاحتلال الإسرائيلي وغيره، بتزويد نظام كييف بالأسلحة المتطوِّرة والفتَّاكة.
وما يُثير السُّخرية حقًّا، هو إقامة الولايات المُتَّحدة جسرَ إمدادٍ من الأسلحة المتنوِّعة، ومن ضِمْنِها صواريخ “هيمارس” وأنظمة صواريخ “ناسامس” المُضادَّة للطائرات، حيث تقترب قِيمة هذه الإمدادات الأميركيَّة وحْدَها من عشرين مليار دولار، ناهيك عن الإمدادات البريطانيَّة والفرنسيَّة والألمانيَّة والبولنديَّة والبلغاريَّة و...إلخ، في وقت تشتكي فيه أميركا ويَلطُم نظام كييف من مُسيَّرات “شاهد 136” التي ـ حسب الرِّواية الغربيَّة ـ أنَّها صنعت الفارق في المواجهة الدائرة، وكبَّدت القوات الأوكرانيَّة خسائر فادحة.
صحيح أنَّ هذا التحريض الأميركيَّ ـ الغربيَّ ضدَّ الجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة بشأن المُسيَّرات والصواريخ الباليستيَّة قصيرة ومتوسطة المدى، له أهدافُه المُتعدِّدة، سواء لجهة مفاوضات الاتِّفاق النَّووي، أو لجهة التدخُّلات في الشَّأن الداخليِّ الإيرانيِّ على خلفيَّة قضيَّة “مهسا أميني”، أو لجهة إرغام طهران على التخلِّي عن التحالف مع موسكو، والقَبول بالاتِّفاق النَّووي وتعويض السُّوق الأوروبيَّة والأميركيَّة المُتعطِّشة للغاز والنفط الإيرانيَّيْنِ، أو لجهة تبرير فرض المزيد من العقوبات وغيرها تجاه إيران. لكنَّ هذا التحريض في المُقابل يُعطي صورةً معاكسة بالدعاية والترويج للصناعة العسكريَّة الإيرانيَّة ومدى تطوُّرها، وقدرتها على صُنع الفارق وإيقاع الدَّمار وإلحاق الخسائر، وهذا ما يُحسب للقدرات البَشريَّة الإيرانيَّة التي استطاعت أنْ تُقدِّم نموذجًا رائعًا في كيفيَّة الاحتفاظ باستقلال القرار السياسي، والتمسُّك بالسيادة، ووضع نظام قائم على تغليب المصالح، واتِّخاذ أسباب القوَّة وامتلاكها لحماية ذلك، ورفض سياسة التبعيَّة والهَيْمنة.
على الجانب الآخر أيضًا، صحيح أنَّ الولايات المُتَّحدة والغرب عمومًا، يسعى من وراء هذا التحريض المُوجَّه ضدَّ إيران، وتدوير الماكينة الإعلاميَّة الضَّخمة عن المُسيَّرات والصواريخ الإيرانيَّة، إلى الحطِّ من المعنويَّاتِ للشَّعب والجيش الروسيَّيْنِ؛ بمعنى توجيه هذا التحريض وهذه الدعاية للداخل الرُّوسي، وإثارة الالتباس بأنَّ المخزونات الروسيَّة بدأت بالنَّفاد، وأنَّ الأسلحة الروسيَّة عديمة الفعاليَّة. لكنَّ الحقيقة التي يَجِبُ الوقوف عندها، هي أنَّ الحروب لها أسرارها، ومن بَيْنِ أسرارها نوعيَّة الأسلحة المُستخدمة، كما أنَّها فرصة لتجريب مدى فعاليَّة هذه الأسلحة، لذلك من المُهم أنْ تختبر طهران إنتاجها العسكري، بَلْ من حقِّها هكذا لسانُ حالِها يقول، كما تفعل الآن أميركا ودوَل الغرب، فضلًا عن قيام موسكو بالتخلُّص من مخزونات أسلحتها من أيَّام الاتِّحاد السوفيتي، ولَمْ تبدأ بعد باستخدام الكثير من أسلحتها المتطوِّرة؛ لكونها من الأسرار العسكريَّة التي يخشى الرُّوس ـ كما يبدو ـ الكشف عنها واستخدامها حتى لا تصلَ شفراتها والموادُّ الداخلة في تصنيعها للعدوِّ فيبني عليها أسلحة تَفُوقُها.
في تقديري، أنَّ الجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة قد كسبت جولةً جديدة من هذا التحريض الأميركي ـ الغربي والدعاية المجَّانيَّة غير المسبوقة حَوْلَ المُسيَّرات والصواريخ الإيرانيَّة، ومن المُؤكَّد أنَّ صدى ذلك يتردَّدُ في كيان الاحتلال الإسرائيلي.. وهذا غباءٌ سياسيٌّ كما أراه.

خميس بن حبيب التوبي
[email protected]