سأطلق العنان لقلمي ليرثي شعراء معاصرين أحياء، لا تعجبوا من أمري فأنا أعلم أن الرثاء للأموات لا للأحياء؟! لكنني سأرثيهم وإن كانوا أحياء، فهم عن عيون الناس وذاكرتهم محجوبون شأنهم شأن الأموات، هم في لحد النسيان قد دفنوا فاستحقوا الرثاء. وسأواسي أمهاتهم الثكلى رغم أن أبنائهن في حجرهن. سأترافع اليوم دفاعا عن شعراء هذا القرن، القرن الحادي والعشرين، وإن لم أتقلد جبة المحامي، هذا القرن الواقف في قفص الاتهام بتهمة أراه بريئا منها، هو متهم بأنه زمان عقمت فيه الأمهات أن تلد مثل أحمد شوقي، أو حافظ إبراهيم، أو معروف الرصافي أو نزار قباني، أو غيرهم من شعراء القرن الماضي.
أعزائي الكرام: دعوني أثبت لكم أن أرحام الأمهات قد جادت بشعراء تفوقوا بشعرهم على شعراء القرن الماضي. فهذا كريم العراقي يثري الأدب العربي بالعشرات من القصائد التي صيغت باللغة العربية الفصحى، وجمعت في دواوين، فمن أبرز هذه القصائد: يا وطني هيا نلعب، نحن جمهورية متى، وقصيدة ترانيم في حب السويد.. وغيرها من القصائد التي لاقت تقدير النقاد المعاصرين، فغُنِّيت هذه القصائد من قِبل أفضل مطربي هذا العصر، كما استحق التكريم لثراء إنجازاته بجائزة عبدالله الفيصل العالمية، واستحق جائزة اليونيسف لأفضل أغنية إنسانية. ويكفيك من قصائده تلك القصيدة التي قال في مطلعها:
بيت من الشعر أذهلني بروعته
توسد القلب مذ أن خطه القلم
أضحى شعاري وبات القلب منزله
فاتبعته بعشرين بيتا من مثلها حكم
تلك القصيدة التي تزخر بأبيات الحكمة لتكون رائعة شعرية تنافس قصائد السابقين، وهذا هو الشاعر عبدالرحمن العشماوي السعودي، فهو يجود بإنتاج غزير من الشعر الكلاسيكي فأودع تلك القصائد في دواوينه التي زاد عددها عن خمسة عشر ديوانا شعريا، وتتسم قصائده بأنها قصائد تعبِّر عن الأحداث التي تمرُّ بها المنطقة العربية والإسلامية، لذا لقبَّه النقَّاد بشاعر الحماسة، ومن أهم هذه الدواوين: إلى أمتي، صراع مع النفس، بائعة الريحان، مأساة التاريخ، نقوش على واجهة القرن الخامس عشر، إلى حواء، عندما يعزف الرصاص، شموخ في زمن الانكسار، يا أمة الإسلام، مشاهد من يوم القيامة، ورقة من مذكرات مدمن تائب، من القدس إلى سراييفو، عندما تشرق الشمس، يا ساكنة القلب، حوار فوق شراع الزمن وقصائد إلى. وإن أردت التحدِّي والمنافسة فاسأل عن شعر تميم البرغوثي الفلسطيني الذي أبى إلا أن يثبت للملأ أن شاعر القرن الحادي والعشرين لا يقلُّ بلاغة وفصاحة وسحرا في البيان عن من سبقوه؛ فتارة يعارض صاحبي البردة، فقد أتى بقصيدة نهج البردة الثالثة بعد قصيدة نهج البردة لأحمد شوقي، وقصيدة نهج البردة للبصيري، فسجل التاريخ أن في هذا القرن شاعرا يضاهي بشعره صاحبي البردة، كما عارض في قصيدة تلك القصيدتين معا فأبدع وأجاد، وتارة تجده ينافس المتنبي في شعره فيقدم رائعته تخميسات على قصيدة المتنبي المشهورة (على قدر أهل العزم تأتي العزائم) وهو يجود بإنتاج شعري غزير.
وتأمل معي قصائد الشاعر السعودي البحريني غازي القصيبي الذي قدم قصائد لا تقلُّ قوة وحنكة عن قصائد القباني في إبداعاته في التصاوير الشعرية، ويكفيك أن تتنعم في سحر بيان قصيدة “ماذا تريد من السبعين يا رجل” تلك القصيدة التي رثى فيها شبابه. وأما الشاعر الصومالي الذي لقب بشكسبير الصومالي، فهو الشاعر محمد إبراهيم خضراوي الذي له المئات من القصائد والملاحم الشعرية في العديد من أغراض الشعر كالحب، والقصائد الوطنية، والوصف وغيرها. وقد حصل على جائزة الأمير كلود في عام 2012 لمساهمته في السلام من خلال الشعر، وهي جائزة دولية يمنحها صندوق الأمير كلاوس سنويا منذ سنة 1997، تكريما للأفراد والمنظمات الذين يسهمون في الثقافة والتطوير المجتمعي بشكل تقدمي ومعاصر خدمة للتعايش والسلام. ولعلَّ المقام هنا لا يفسح لي لحصر شعراء هذا العصر المحنكين الذين أضافوا بقصائدهم لمكتبة الشعر العربي تحفا شعرية يفخر بها التاريخ، فأوجز هذا الحصر بالإشارة إلى شعراء منافسات شاعر المليون التي أبرزت العشرات من الشعراء الذين أبدعوا في شعرهم، وتنافسوا في إبداعاتهم الشعرية. من هنا أرى أن الإشكالية ليست إشكالية غياب شعراء بارعين، ولكن تكمن المشكلة في قلة النقَّاد الذين ينقدون تلك القصائد فيبرزون جوانب القوة ويتناولونها بالتحليل والشرح والتأمل ويغوصون في أعماقها ليكتشفوا دررها، وفي القراء والمستمعين الذين تستهويهم ألحان الأغنيات فينشغلون باللحن والطرب عن جمال الكلمات وعذوبة التعبير، أم تكمن المشكلة في القائمين على إعداد المناهج الدراسية ومؤلفي الكتب المدرسية الذين لا يسلطون الضوء على الشعراء المعاصرين، ولا يفرضون عليهم حفظ روائع قصائد الشعراء المعاصرين، فيتخرج الطلبة جاهلين بشعراء عصرهم...؟ تلك إشكالية ثقافية حضارية، حيث يصد الناس عن إبداعات المبدعين، لتكون إبداعاتهم من مكنونات الأدراج، وتوأد بُنات أفكارهم وإبداعاتهم في مهدها، فرجائي في نقَّاد منصفين يبعثون الشعراء المبدعين من لحودهم... ودمتم أبناء قومي سالمين.



نجوى عبداللطيف جناحي
كاتبة وباحثة اجتماعية بحرينية
متخصصة في التطوع والوقف الخيري
[email protected]
Najwa.janahi@