يتعرض الإنسان عبر مراحل حياته المختلفة إلى العديد من المواقف والتجارب التي لا تخلو من الصعوبات بدرجات متفاوتة؛ بعضها صعب وبعضها بالغ الصعوبة، فلم يسبق لإنسان مشى على هذا الكوكب أن عاش حياة خالية من المشكلات التي يعتبرها بعض الناس أزمات ومشاكل بينما ينظر إليها أهل البصيرة والاستنارة الروحية على أنها تجارب ودروس تساهم في النمو العقلي والروحي (عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له) فالمواقف الصعبة كما يقولون في الحكمة القديمة هي بركات مُقنَّعة.
بل هي هدايا يعطيها الله لمن يحب (إذا أحبَّ الله عبدًا ابتلاه، فإذا صبر اصطفاه، وإذا شكر اجتباه).. فكل مشكلة أو موقف صعب أو تحدٍّ أو ضائقة يمر بها الإنسان تمنح الشخص فرصة لتوسيع وعيه والنظر من منظور أوسع وتوجيه الانتباه إلى خيارات كثيرة لم يكن واعيًا بها من قبل. قال عالم النفس الراحل المشهور عالميًا كارل يونغ: أنت لا تحل المشاكل، بل تتفوق عليها.
ما قاله الدكتور يونغ في الواقع صحيح جدًّا، فعندما ننظر إلى الحياة ومشاكلها من منظور روحي أعمق، تتجلى لنا الهدايا الإلهية المخبأة في تلك المواقف والتحديات.
وتؤدي ممارسة الاستنارة الروحية فرصًا غير محدودة تتيح مجالًا للإنسان كما لو كان يصعد جبلًا وعندما يعلو قمته يكتشف إطلالة رائعة، وهذا في الحقيقة ما شعرت به شخصيًا منذ أسبوع، وتحديدًا في صبيحة يوم الجمعة قبل الماضي، صعدت مع زميلي الدكتور سعيد علي تبوك عبر قمة (حييث) عقبة جبلية تقع شمال شرق عين صحلنوت، لا يزيد ارتفاعها عن 1000 متر عن سطح البحر، لكننا ما إن اعتلينا قمتها حتى صرنا نرى البحر وجميع أحياء مدينة صلالة، وميناء ريسوت والمطار وجميع المنشآت المهمة.
صارت الرؤية أرحب، وأضحى الوعي أعمق؛ وكذلك الشخص المستنير الذي يتأمل روحيا في المواقف التي يتعرض لها، تبدو المواقف صعبة وعويصة أحيانًا ولكنها في حقيقة الأمر تعطي المجال للاستيعاب برحابة أكبر.
ذات مرة جلس معي شاب يعاني من اضطراب نفسي خطير وتحول الاضطراب إلى حالة عقلية تطلبت ذهابه إلى المستشفى وتلقي العلاج الكيميائي الذي كاد أن يفقده عقله تمامًا، وعندما تخلص من تلك العقاقير التي كانت تقتل خلايا المخ بلا رحمة.
وبدأ يتدرب على التأمل الروحي والاتصال بالنور في أعماقه، جاءه المدد النوراني وتعافى وتحسنت صحته واستأنف حياته الطبيعية. مارس ذلك المتعالج الخلوة مع الذات وفصل نفسه عن بيئته المضطربة، ومارس التأمل الذي جعله يركز أكثر ويرى مشكلات حياته كما لو كان ينظر من قمة (حييث) فالحياة تتطلب منا صعودًا شاقًّا أحيانًا ولكنه يتيح لنا المجال لرؤية أوسع وأرحب.
فالتأمل يسمح لعقولنا أن ترتفع لتكون قادرة على رؤية ما يمكن القيام به في المواقف الصعبة. إن الذين يمارسون الاستنارة الروحية من خلال الصعود العقلي ينظرون داخل أنفسهم لتنكشف لهم جوانب الحياة المختلفة وتتاح لهم الفرصة للاختيار الأفضل.


* د.أحمد بن علي المعشني
رئيس أكاديمية النجاح للتنمية البشرية