يروى أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، قَالَ لِرَجُلٍ: “مَا اسْمُكَ؟” فَقَالَ جَمْرَةُ، فَقَالَ: “ابْنُ مَنْ؟”، فَقَالَ: ابْنُ شِهَابٍ: قَالَ: “مِمَّنْ؟” قَالَ: مِنَ الْحُرَقَةِ، قَالَ: “أَيْنَ مَسْكَنُكَ؟” قَالَ: بِحَرَّةِ النَّارِ، قَالَ: “بِأَيِّهَا؟”، قَالَ: بِذَاتِ لَظًى، قَالَ عُمَرُ: “أَدْرِكْ أَهْلَكَ فَقَدِ احْتَرَقُوا”، قَالَ: فَكَانَ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
هذه الواقعة تحمل دلالات كثيرة حول الفأل الحسن والتفاؤل والإيجابية، وأن حُسن انتقاء الأسماء للأماكن والأهل والولد، تعبير عن مستوى الذوق والرقي وعلو التفكير ومساحة الأمان والأمل والسلام الداخلي التي تطبع حياة الفرد والمجتمع، وفرص التوازنات التي تصنعها بتغيير الحال، وما قد يترتب على التغيير من فرص أرحب في تجديد الذات وتصحيح القناعات وتغيير المزاجيات وإدارة هندسة السلوك، وبالتالي ما يمكن أن تطبعه الكلمات المستهجنة والمستقبحة أو غير المستساغة من مساوئ وتأثيرات سلبية على الأشياء المسماة، سواء كان اسما لشخص أو اسما لبلد أو مكان يعيش فيه، فالذوق العام للبشر ينسحب في الغالب من الكلمات التي تحمل دلالات نابية غير مقبولة، في حين يميل إلى الكلمات والمعاني التي تحمل صورة إيجابية مشرقة متفائلة، كما أن الصورة التي تتراكم لدى الفرد حول اسمه والنقص الذي يشعر به بالذكر بين أقرانه أو إخوته له أثره في ما يُسقطه على واقعه، فهو يفخر ويعجب بالأسماء التي تحمل معاني جميلة وتتميز بسلاسة النطق وعلو القيمة وحسن اللفظ وجمالية القول، وفي الوقت نفسه يكره أو يغضب لمناداته بالأسماء التي قد يكون فيها شيء من عدم الأريحية أو يستدل بها الناس على أوصاف غير معهودة، يستوي في ذلك أسماء الأشخاص وأسماء البلدان.
لقد أدركت النهضة العمانية منذ سبعينيات القرن الماضي بقيادة المغفور له بإذن الله تعالى حضرة صاحب الجلالة السُّلطان قابوس بن سعيد ـ طيَّب الله ثراه ـ هذه المعاني الجميلة في تغيير مسميات البلدان والأودية والسيوح انطلاقا من المبدأ الذي أرساه سلطان عمان الراحل “عمان اليوم غيرها بالأمس فقد تبدل وجهها الشاحب ونفضت عنها غبار العزلة والجمود وانطلقت تفتح أبوابها ونوافذها للنور الجديد”. فمن الأشياء اللافتة في شخصية جلالته ـ طيَّب الله ثراه ـ هو اهتمامه بمسميات الأشياء بطريقة تعكس الصورة الجمالية لذلك الشيء أو المكان، فعمل من خلال الجولات الكريمة السَّامية على تغيير مسميات بعض الأماكن والبلدان والقرى والأودية التي يمرُّ فيها موكب جلالته في مختلف ولايات سلطنة عمان وصحاريها ووديانها إلى أسماء أخرى مغايرة لها تحمل دلالات الذوق والجمال وتعبيرات التفاؤل والإيجابية، داعيا إلى عدم استخدام المسميات والألفاظ المستهجنة أو المستقبحة في العرف العام، إما لأن ما تحمله من مسميات قد تكون له دلالات غير لائقة أو غير إيجابية، أو دلالة مذمومة أو معيبة أو سلبية، ولعل أول ما بدأ به جلالة السُّلطان الراحل تغيير اسم السَّلطنة من سلطنة مسقط وعُمان إلى سلطنة عُمان، في دلالة معبِّرة على لمِّ الشَّمل وتعزيز الوحدة الوطنية وانصهار كل الولاءات القبلية لتتجه إلى الولاء لعُمان وسلطانها المفدى، وقد نتج عن جولات جلالته ـ طيَّب الله ثراه ـ تغيير أسماء بعض القرى مثل قميلة إلى أصيلة بولاية جعلان بني بو علي بمحافظة جنوب الشرقية، ومخرمة بولاية صور إلى نعمة، والمتهدمات إلى العامرات بمحافظة مسقط، والميسر إلى الميسّر في ولاية المضيبي وغيرها كثير.
على أن ما يشير إلى حرص جلالته ـ طيَّب الله ثراه ـ على حُسن انتقاء الأسماء واختيارها وفق أعلى معايير الذوق والمزاج الراقي والفأل الحسن وبما يفتح آفاقا رحبة للناس في تناولهم لهذه المسميات وحالة الاستمتاع التي يشعرون بها في استنطاقها اللفظي، يظهر في تسمية السيوح التي حطت فيها رحال الموكب السَّامي والتي تسمى بالمخيمات السُّلطانية ليتم انتقاؤها ووصفها بمسميات وأوصاف إيجابية تزينها مساحة التفاؤل والأريحية في النطق، وعدم التكلف في الوصف، فكان سيح المكارم وسيح النماء وسيح السلام، وسيح الرخاء، وسيح العُلا، وسيح اليُسر، وسيح الخيرات، وسيح المسرات، وسيح الرحمات، وسيح البركات، وسيح الحسنات، وسيح الطيبات، وسيح الراسيات، وسيح الشامخات، وسيح النفحات، وسيح المحامد، وغيرها كثير، لقد أراد جلالة السُّلطان ـ طيَّب الله ثراه ـ من ذلك الارتقاء بفكر الإنسان العُماني ووجدانه وعطائه حتى يكون إسهامه في خدمة الوطن عمليا واضحا وملموسا، في إطار من الثقافة الإيجابية المنتجة الواعية بعيدا عن ثقافة السلبية والاستهلاك اتجاه ما يدور في بلده من تنمية شاملة وتطوير واسع وسريع غطى كل مجالات الحياة.
كما أن تغيير الأسماء والمسميات له أيضا بعض الدلالات الدينية المرتبطة بالفأل الحسن، وحسن الظن بالله، فقد كنت شخصيا حاضرا في مجلس أحد مشائخ العلم وعلماء الدين المعروفين في بلادنا حفظه الله، إذ سلم عليه أحد الطلبة الجدد الذين يتم اختبارهم لمواصلة الدراسة في المركز الصيفي واسمه “غافل” فابتسم الشيخ وقال له أنت “يقظان” وليس غافل، فأطلق عليه هذا الاسم الجديد الذي أصبح مثبتا في الوثائق الرسمية ويعرف به منذ حينه.
لقد أسهم التوسع العمراني واتساع شبكات الطرق الرئيسية في مختلف محافظات سلطنة عُمان إلى اكتشاف مناطق إسكان جديدة، ووجدت المخططات الإسكانية بين جانبي الشارع، الأمر الذي أسهم في ظهور أسماء بعض البلدان التي تم تسجيلها في لوائح الشارع بأسمائها القديمة، كما اتجهت الجهات المعنية إلى تسمية معابر الأودية والمناطق السياحية بأسمائها المعهودة، ولما كان من بين هذه المسميات ما يحمل دلالات تشاؤمية وتعابير سوداوية قاتمة أو يعبِّر عن صورة لفظية غير مقبولة مجتمعيا كان من الأهمية أن يعاد النظر في هذه المسميات ومستوى الحاجة إلى ذكرها بأسمائها القديمة، وبالتالي يطرح هذا الواقع تساؤلنا: هل جيل اليوم بحاجة إلى معرفة هذه الأسماء؟ وهي من الأهمية إظهارها في لوحات الشارع بأسمائها؟ نعتقد بأن المسألة فيها من المرونة والأريحية ما يتيح للجهات المعنية اتخاذ إجراءات استباقية بتغيير مسميات هذه البلدان والقرى والأودية قبل عرضها في لوحات الشوارع، فإن بعض التنسيق مع المجالس البلدية والمحافظين والولاة والمواطنين باختيار مسميات، وإطلاق وصف آخر عليها سوف يقلل من التكلف الحاصل في هذه المسميات والصورة السلبية التي باتت تسقطها على سكان تلك المناطق أو مستخدمي الطريق.
على أن الرصيد الحضاري العُماني في تغيير مسميات البلدان والقرى والأودية الذي أشرنا إلى بعضه يصنع من هذه المسألة مساحة للشعور الجمعي المشترك بضرورة تغيير مسميات هذه البلدان أو الأودية، ذلك أن الإنسان العُماني اليوم أصبح يمتلك من الثقافة والوعي بقيمة هذه المسميات ما يجعله يتقبل هذا التغيير بكل أريحية، إذ من الملاحظ في الواقع أنه لم يعد تسمية الأبناء والبنات بأسماء أجدادهم أو جداتهم كما هو شائع من قبل، بل إن الكثير من المواطنين عمدوا إلى تغيير أسمائهم التي تم تسميتهم بها في فترات سابقة والتي في نظرهم تحمل دلالات غير مريحة، سواء كانوا رجالا أو نساء. وعليه، فإن اتخاذ أي إجراءات بشأن مراجعة هذه المسميات سوف يحظى باهتمام مجتمعي وشعبي كبير، وسيكون له مردوده الإيجابي على الذوق المجتمعي العام والفأل الاجتماعي وتربية النشء على الأفكار الإيجابية والكلمات الطيبة والذوق الحسن. فمع ما تثيره من حالة التشاؤم في حياة الأجيال فإنه في تقديرنا الشخصي ليس هناك من حاجة إلى تعليم الابن وهو في سنوات دراسته الأولى أن اسم بلده يشي بالتشاؤم والأسقام والأحوال الإنسانية السيئة وغير ذلك، وهي بهذه الصورة من الاستهجان الذي يستقبحه بنفسه ويستحي من نطقه ويجد بأنه قد يكون نقيصة له أمام أصحابه وزملائه في الدراسة.
عليه، وفي ظل معطيات رؤية عُمان 2040 والحديث عن تحوُّلات في المنظومة المعمارية لسلطنة عمان، واعتماد موجهات عالمية قائمة على أنسنة المدن والتخطيط الحضري والمدن الذكية والاستراتيجية العمرانية، ليس من المنطق أن يستمر وجود هذه المسميات، بما يؤكد أهمية البحث عن معالجات جادة لإطلاق مسميات أخرى لها مغازٍ جميلة وذوقية، فإن على الجهات المعنية بالدولة اتخاذ خطوات جادة بحصر هذه البلدان والأودية والمناطق السياحية والجبال والعيون وغيرها وإطلاق أسماء أخرى لها أبعاد تفاؤلية في حياة السكان، وهو دور معقود على المجالس البلدية ومكاتب المحافظين في إجراء مسح شامل لكل الأودية والبلدان والقرى العُمانية التي تمرُّ بها شبكات الطرق أو غيرها من البلدان البعيدة، ورصد هذه المسميات وإعادة التعريف بها وتعريبها مع المواطنين القاطنين في تلك المناطق، الأمر الذي سيكون له أثره الإيجابي وأبعاده النوعية في الوصول إلى مسميات تتناغم مع التوجهات الوطنية وتعكس الثوابت العُمانية والإرث الخالد لسلطان عُمان الراحل، كما تسهم في بناء فرص تواصلية تعكس ابعادا جمالية وذائقة حضارية وفرص اقتصادية واستثمارية تتناغم مع الأنشطة السياحية والمشاريع التطويرية التي ستحظى بها هذه المناطق.


د.رجب بن علي العويسي
[email protected]